بقلم: Clara Nabaa & يورونيوز

نشرت في

أجرت “يورونيوز” مقابلات مع سوريين عادوا إلى بلادهم وآخرين لا يزالون خارجها، لتتضح صورة متشعبة للواقع. بعضهم يتحدث عن فرحة العودة بعد سنوات من اللجوء، لكنهم يصطدمون بغياب الخدمات وفرص العمل وارتفاع كلفة إعادة الإعمار. في المقابل، يرى آخرون أن الأمن ما يزال هشاً، وأن الانقسامات الطائفية والتهديدات تجعل العودة خياراً غير واقعي.

الغربة في الوطن

قمر صباغ (من حلب)، نزحت إلى تركيا خلال السنوات الأولى من الحرب. بالنسبة لها، سقوط النظام كان أشبه بحلم تحقق بعد سلسلة طويلة من الألم. تصفه بأنه لحظة استعادت فيها كرامة الناس، لحظة دفعت لنيلها سنوات من القهر والخسارات، لكنّها تدرك أيضاً أن الواقع ليس ورديًا.

قمر عادت الى سوريا بعد سنوات من النزوح، تحمل شوقا لبلدها، لكنها تعود ايضا بحذر مما قد تواجهه. تتحدث عن شعور بالغربة في مدينة عاشت فيها طفولتها وشبابها. الشوارع كما هي، إلا أن روح المدينة تغيّرت. البلد مرهق، والسكان منهكون، والأسعار خانقة. تقول إن الأمان ليس فقط غياب القصف، بل شعور داخلي بالطمأنينة، وهذا الشعور غائب، فالخوف من الغد يتحول إلى جزء من الحياة اليومية.

تصف قمر سوريا بأنها بلد يعيش أزمة وراء أخرى: الكهرباء، الماء، العمل. ومع ذلك، هناك ما يبقي الناس متمسكين بها: الخير، والحب العميق للأرض، والإصرار غير المعلن على البقاء رغم الخسارات.

ولا تخفي قمر ارتباكها في قدرتها على التأقلم: فمن تركيا إلى سوريا، لا تزال تشعر أنها لا تنسجم مع نمط الحياة داخل البلاد ولا مع الناس الذين مكثوا طوال السنوات الماضية. تسأل نفسها مرارًا كيف استطاعوا العيش والصمت طوال تلك المدة؟

البدء من الصفر

من تجربة قمر إلى شهادة ربيع الزهوري (من مدينة القصير)، حيث تغلب المشاعر الاحتفالية على مخاوف الواقع. بالنسبة له، فإن سقوط النظام فتح باب الحديث عن سوريا بوصفها وطنًا يمكن أن يجتمع فيه الناس مجددًا بعد سنوات من القهر.

ربيع خرج من القصير إلى لبنان في الرابعة عشرة من عمره عبر “فتحة الموت” المشهورة، إنّ خبر سقوط النظام شكّل نقطة تحول، فقرّر العودة مع عائلته رغم أن ما ينتظرهم لم يكن سهلًا. كان أول ما واجهوه هو بيت الطفولة المدمّر. الموارد محدودة، والعمل شبه معدوم، لكنهم بدأوا من الصفر: ثلاثة أشهر بين لبنان وسوريا حتى أعادوا بناء المنزل.

في القصير، الناس يحتفلون بذكرى 8 كانون الأول/ديسمبر بوصفها “عيد التحرير”. وفق شهادته، أُقيم ماراثون لذوي الإعاقة يوم السبت، وامتلأت الساحات بالناس الذين شعروا من جديد بمعنى الانتماء، وكلمة “سوري” أصبحت مصدر فخر لنا.

رغم ذلك، لا يخفي ربيع المشكلات اليومية: نقص فرص العمل عمّق أزمة العائدين، والخدمات تكاد تكون غائبة، من الاقتصاد إلى الصحة والتعليم. ويشير إلى أن كثيرًا من الناس سكنوا خيمًا لعجزهم عن ترميم بيوتهم، هناك صعوبة التأقلم مع الانتقال من بلد آخر إلى الوطن، وتكاليف إعادة الإعمار كبيرة جداً حتى على مستوى المنازل

المسألة الأمنية أيضًا ليست محسومة، إذ يشير إلى أن الأمن لم يترسخ بعد، وإن بعض الأحداث والفتن تقع، لكنه يرى أن عدم العودة إلى سوريا لن يسمح لها بالنهضة. ويكشف أنه عاد وهو “مطلوب” بسبب تهم غير صحيحة وضعها النظام السابق، واستغرق شهورًا لإزالتها قبل أن يبدأ حياته من جديد.

وأضاف: “نستطيع كشعب سوري أن ننهض من تحت الركام ونبني هذا الوطن من جديد”.

مخاوف الأقليات

في مقابل الشهادات التي تراوحت بين فرحة العودة وصعوبات التأقلم، تظهر تجربة فتاة سورية نزحت إلى دولة أوروبية وفضّلت عدم الكشف عن اسمها، لتضع الذكرى الأولى لسقوط الأسد في سياق مختلف: سياق إعادة التفكير بمعنى التغيير نفسه.

تصف الذكرى الأولى لسقوط الأسد بأنها ليست حدثًا عابرًا بل حالة عاشت معها شهورًا من الرهبة والفرح والذهول. بالنسبة لها، لم يكن ما سقط مجرد نظام، بل رمزٌ للطغيان الذي رافق السوريين جيلًا بعد جيل، وفرض ثقله على تفاصيل حياتهم وأحلامهم لسنوات.

لكن الشعور بالانتصار – كما تقول – لا يعني أننا وصلنا إلى الحرية. خمسون عامًا من الحكم الأمني والعنف وتمزيق المجتمع لا تختفي بسقوط شخص، والمرحلة الانتقالية تحتاج إلى عمل مماثل في صعوبته لما عاناه السوريون، مع شفافية وشجاعة وواقع سياسي لا تراه متوفرًا حتى الآن.

أما العودة فتصفها بأكثر الملفات إيلامًا وتعقيدًا، المشهد مختلف من مكان لآخر: هناك من عاد، وهناك من اضطر للمغادرة بعد سقوط الأسد. هذا التفاوت يعكس واقعًا طائفيًا رسخته سنوات من التحريض والاستغلال، وتغييرات في موازين القوة لم تفتح الباب أمام “سوريا لكل السوريين”.

تستشهد بمجازر الساحل والسويداء، وتقول إن رسائل التهديد والانتهاكات وخطف النساء تُبقي الأقليات في دائرة الخوف. والمدينة التي تنحدر منها، السويداء، مفروضة عليها عزلة خانقة تشبه الحصار، ما يجعل العودة بالنسبة لعائلتها غير ممكنة. فقد اضطرت عائلتها للهرب مرتين خلال مجزرة السويداء، مثلما اضطرت هي نفسها سابقًا للفرار من نظام الأسد.

وبالنسبة لها، لا تبدو الذكرى مناسبة للاحتفال فقط، بل لحظة لتذكر المغيبين قسرًا وعائلات المفقودين، وهي مناسبة أيضاً لتفحص ما تغيّر وما لم يتغير، وللتذكير أننا أمام بداية طريق، لا نهايته.

بعد مرور عام على سقوط الأسد، تبدو تجارب السوريين مختلفة، وقد فرض ذلك واقع الحرب والتهجير والدمار، وإن كانت العودة بالنسبة إلى الكثيرين خياراً مطروحاً، لا تزال تحديات الأمن والعدالة والخدمات وفرص العمل في صلب تفكير اي نازح.

شاركها.
اترك تعليقاً

© 2025 الشرق اليوم. جميع الحقوق محفوظة.
Exit mobile version