في ليلةٍ هادئة من ليالي الإثنين، قبيل فجر أمس (الثلاثاء)، ترجّلت عن هذه الدنيا الجدة فاطمة بنت سلطان العمري رحمها الله، بعد رحلة عمرٍ حافلة بالصبر والكفاح والحكمة، تاركةً في القلوب أثراً لا يغيب، وفي الذاكرة سيرة امرأةٍ استثنائية صنعت من البساطة عظمة، ومن الشدّة حناناً.
عاشت الفقيدة معظم سنوات عمرها في منزلها المتواضع بإحدى قرى بني عمرو في جنوب المملكة، حيث شكّل ذلك البيت ملاذاً للأمان، وموئلاً للقيم الأصيلة، ومشهداً يومياً لقوة امرأة واجهت الحياة بثباتٍ وبأسٍ شديد، لا تلين أمام الصعاب، ولا تنكسر أمام تقلّبات الزمان.
كانت رحمها الله مثالاً للحكمة المتّزنة، تُصغي أكثر مما تتكلم، وتختصر التجارب في كلماتٍ قليلة، لكنها عميقة الأثر. ولنا نحن أحفادها من ابنتها منى، كانت الدرع والسند، لا سيما أننا كنّا الوحيدين القادمين من خارج نطاق القبيلة، فاحتوتنا بقلبها قبل بيتها، وجعلتنا نشعر بأننا جزء أصيل من المكان والذاكرة.
وكان لوقع الخبر أثره الذي لا يُنسى؛ إذ بلغني نبأ وفاتها وأنا خارج مدينة الرياض، فجاء كالصاعقة، وتوقّف الزمن للحظة، وعادت الذاكرة إلى الخلف دفعةً واحدة، إلى البيت القديم، وإلى الصيفيات الطويلة، وإلى صوتها وملامحها ودمعتها. تساءلت في صمتٍ مثقل: أحقاً رحلت؟ أم أن الروح تأبى التصديق حين يفقد القلب أحد ثوابته؟
كانت تفرح بقدومنا مع كل صيف، وتستقبل أيامنا بلهفةٍ صادقة، وكأن الزمن يتجدّد بحضورنا. وحين يحين موعد الرحيل والعودة إلى المدن مع نهاية الصيفية، كانت لحظات الوداع ثقيلة، يثقلها الصمت، وتكسرها دمعة صادقة لا تُنسى، دمعة حفرتها في وجداننا قبل أن تنحدر من عينيها، وكأنها تلخّص حزن الفراق وصدق المحبة في آنٍ واحد.
رحلت الجدة فاطمة، لكن سيرتها باقية، وذكراها حيّة في تفاصيلنا، وفي قيمٍ غرستها دون خطبٍ أو وصايا، بل بالفعل والموقف والصبر الجميل.
نسأل الله العلي القدير أن يتغمدها بواسع رحمته، ويسكنها فسيح جناته، وأن يجعل ما قدمته في ميزان حسناتها، وأن يلهمنا وذويها ومحبيها الصبر والسلوان.

