في المشهد الثقافي الراهن، يتردد سؤال جوهري بات يؤرق النقاد والقراء على حد سواء: ألم يغدو الشعر أكثر تشابهاً حد غياب الفرادة؟ لم يعد هذا التساؤل مجرد ملاحظة عابرة، بل تحول إلى إشكالية نقدية عميقة تمس جوهر الإبداع الأدبي في العصر الحديث. إن المتأمل في نتاجات العديد من الشعراء الجدد، وخصوصاً عبر منصات النشر الرقمي، يلاحظ ذوبان الفوارق الأسلوبية وتلاشي البصمة الشخصية التي طالما ميزت الشعراء الكبار عبر التاريخ.
الجذور التاريخية: من التمايز إلى التماهي
لفهم عمق هذه الظاهرة، لا بد من العودة إلى السياق التاريخي للشعر العربي. في العصور الذهبية للأدب، كان من السهل على الناقد، بل وحتى القارئ العادي، أن يميز بين قصيدة للمتنبي وأخرى لأبي تمام، أو يفرق بين نزار قباني ومحمود درويش بمجرد سماع البيت الأول. كانت الفرادة الأسلوبية هي المعيار الأساسي للشاعرية؛ حيث يمتلك كل شاعر قاموسه اللغوي الخاص، وإيقاعه المتفرد، وصوره البيانية التي لا تشبه غيرها.
أما اليوم، ومع تسارع وتيرة النشر الإلكتروني وهيمنة “ثقافة الشذرات” (Snippets Culture)، بدأنا نشهد نمطاً من الكتابة يعتمد على القوالب الجاهزة والصور المستهلكة. لقد ساهمت العولمة الثقافية والرقمنة في خلق ما يمكن تسميته بـ “الوعي الجمعي المستنسخ”، حيث يتأثر الشعراء ببعضهم البعض بشكل لحظي ومباشر، مما يؤدي إلى إعادة إنتاج نفس التراكيب والمشاعر دون تمحيص أو تجربة ذاتية عميقة.
تأثير التكنولوجيا ومنصات التواصل على بنية القصيدة
لا يمكن إغفال دور التكنولوجيا في هذا التنميط. إن خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي تفضل النصوص القصيرة، المباشرة، والمشحونة عاطفياً بطريقة سطحية لضمان سرعة الانتشار (Virality). هذا الضغط غير المباشر دفع العديد من المواهب الشابة إلى التخلي عن البحث عن صوتهم الخاص لصالح كتابة ما يروق للجمهور العام، مما أدى إلى سيادة لغة شعرية “وسطى” تفتقر إلى العمق والخصوصية.
الأبعاد الثقافية والمستقبلية لغياب الفرادة
إن خطورة غياب الفرادة لا تتوقف عند حدود النص الأدبي، بل تمتد لتشمل التأثير الثقافي العام محلياً وإقليمياً:
- محلياً: يؤدي التشابه إلى عزوف القراء عن متابعة الإصدارات الجديدة، حيث يشعر القارئ أنه يقرأ نفس الكتاب بعناوين مختلفة، مما يضعف سوق النشر وحركة النقد.
- إقليمياً ودولياً: تفقد الثقافة العربية قدرتها على تصدير أصوات أدبية جديدة ومؤثرة للعالم. فالأدب العالمي يبحث دائماً عن “المختلف” و”الأصيل” الذي يعبر عن هوية وذاتية مستقلة، لا عن النسخ المكررة.
ختاماً، إن استعادة ألق الشعر العربي تتطلب وقفة جادة من المؤسسات الثقافية والنقاد، والأهم من ذلك، من الشعراء أنفسهم. العودة إلى القراءة العميقة، والابتعاد عن ضجيج التفاعل الرقمي المؤقت، والبحث في أغوار الذات، هي السبيل الوحيد لكسر طوق التشابه واستعادة الفرادة المفقودة.
The post تشابه الشعر المعاصر وغياب الفرادة: قراءة نقدية في الأدب الحديث appeared first on أخبار السعودية | SAUDI NEWS.



