“توقفوا! هذه إمبراطورية الموت”، هذه الكلمات من قصيدة “الإنيادة” للشاعر الروماني فيرجيل محفورة بأحرف كبيرة عند مدخل سراديب الموتى المعروفة باسم “كاتاكومب” في باريس، وهذه العبارة تمثل تحذيرا لآلاف الزوار الذين لا يُسمح لهم بتجاوز كيلومترين فقط داخل السراديب.

لكن هذا لم يوقف الباحثين الذين يقضون منذ عام 2022 أيامًا متواصلة في هذا العالم السفلي المظلم والبارد على عمق أكثر من 20 مترًا تحت الأرض، وفي متاهة من جدران الجثث وبقايا الهياكل العظمية تمتد على مسافة 300 كيلومتر داخل شبكة طويلة من أنفاق المحاجر تملؤها رائحة الموت، وممرات ضيقة يصعب التجول فيها، وصالات مظلمة تتزين أحيانًا برسوم جدارية.

وفي أول دراسة علمية لسراديب الموتى يقودها عالم الأنثروبولوجيا والآثار في جامعة باريس ساكلي، فيليب شارلييه، يسعى فريق متعدد التخصصات من علماء الأنثروبولوجيا والأحياء والأطباء وعلماء الآثار إلى كشف الغموض والألغاز التي تدور حول ملايين الجثث التي تحويها هذه السراديب، ومعرفة عدد المدفونين فيها، وكيف ولماذا ماتوا، وكيفية وصول جثثهم إلى أسفل شوارع باريس.

ويقول شارلييه، في تصريحات للجزيرة نت، إن مشروعهم البحثي يهدف إلى الكشف عما يمكن أن تخفيه البقايا البشرية عن أسرار صحة دفن أكثر من 6 ملايين باريسي داخل هذه الأنفاق، والأمراض والعدوى التي عانوا والتي ربما أدت إلى وفاتهم على مدار القرون الماضية.

بقايا مؤرقة من الماضي

بالعودة إلى الوراء قرنين ونصف القرن إلى زمن لويس السادس عشر، عندما واجهت باريس سلسلة من الأحداث المزعجة، نجد أن سراديب الموتى الباريسية نشأت نتيجة لحدثين رئيسيين في القرن الثامن عشر؛ الأول يتعلق بانهيار المحاجر تحت الأرض التي كانت تُستخرج منها الأحجار المستخدمة في بناء المدينة منذ مدة طويلة.

أدى هذا الانهيار إلى إنشاء شبكة خطيرة من الفراغات تحت شوارع باريس، وخاصة على الضفة اليسرى للمدينة. واستجابة لذلك، أنشأ الملك لويس السادس عشر هيئة التفتيش العام للمقابر في عام 1777 لرسم خريطة للبنية التحتية تحت الأرض وتعزيز المناطق غير المستقرة.

كان الحادث الثاني الذي أدى إلى إنشاء سراديب الموتى أزمة صحية عامة مروعة؛ ففي عام 1780 أصبحت “مقبرة الأبرياء” العملاقة في منطقة هاليس مكتظة للغاية لدرجة أن الجثث المتحللة تناثرت إلى الأقبية القريبة، وهو مشهد مرعب لسكان باريس.

ومع مخاوف انتشار الأمراض، قررت السلطات استخراج الجثث من مقابر باريس المكتظة. وفي عام 1785، وعلى مدى 15 شهرًا، وبصحبة طقوس دينية، كانت عربات ضخمة تجرها الثيران تنقل الرفات ليلا إلى أعمدة المحاجر المهجورة على مشارف المدينة، وتم إسقاطها في أعمدة المحاجر المهجورة وتركها مكدسة فوق بعضها.

لم يكن الأمر كذلك حتى أوائل القرن التاسع عشر عندما أراد المفتش العام للمحاجر هيريكارد دي ثوري إظهار الاحترام العميق لأولئك الذين ماتوا، فتولى مهمة تنظيم ترتيب العظام في جدران زخرفية باستخدام عظام طويلة مثل عظام الفخذ والجماجم لإنشاء عرض أكثر تنظيمًا من الناحية البصرية. ومع ذلك، خلف هذه الواجهات المصممة بعناية، كانت العظام المتبقية ملقاة في كومة فوضوية.

وفي هذا السياق، يشير شارلييه إلى وجود مقابر عظام أخرى في العالم، لكن تلك التي تقع أسفل باريس وضواحيها تمثل أكبر مقبرة جماعية مكتشفة حتى الآن، ومتحفًا مفتوحًا للعظام البشرية، مضيفًا أن هذا يجعلها المكان الأفضل لإجراء دراسة أنثروبولوجية وباثولوجية، خاصة مع عدم وجود أي دراسة علمية جادة لسراديب باريس.

أتيحت الفرصة لفريق شارلييه لدراسة الموقع منذ عام 2022 (فيليب شارلييه)

ألف عام من المرض

لا يهتم فريق شارلييه بالترتيب الفني للعظام فحسب، بل يهدف بحثهم، الذي بدأ بعد انهيار جزء من جدار العظام قبل 3 سنوات، إلى الكشف عن سبب انتهاء المتوفى إلى حيث انتهى به المطاف، وكيف عاش هؤلاء الأفراد وكيف ماتوا، للوقوف على تاريخ الصحة العامة في باريس وضواحيها.

يأتي ذلك في سياق دراسة تاريخ طويل جدا من المرض، حيث إن الجثث الموجودة في سراديب الموتى تعود إلى مراحل مختلفة، ويبلغ عمر بعض أقدم البقايا أكثر من ألف عام، من العصر الميروفنجي.

ومن خلال دراسة البقايا الهيكلية، يأمل الفريق فهم كيفية تطور الأمراض على مر القرون، وكيفية إجراء الممارسات الطبية التي خضع لها الباريسيون، مثل عمليات ثقب الجمجمة والبتر والتشريح والتحنيط.

أحد الأساليب الرئيسة المستخدمة هو علم الأمراض القديمة أو “الباليوباثولوجيا”، إذ يفحص الفريق عينات العظام بحثًا عن آثار لحالات مثل الكساح والزهري والجذام، التي تترك علامات يمكن التعرف بها على بقايا الهياكل العظمية.

ويمكن أن تؤدي الأبحاث والنتائج إلى رؤى لا تُصدق وعلاجات للأمراض التي نعاني منها في العالم الحديث اليوم. فعلى سبيل المثال، يمكن التحقق مما إذا كان مرض الزهري الذي أودى بحياة شخص ما في القرن السادس عشر هو المرض نفسه الذي نعرفه اليوم، أو إذا كان العامل المسبب للمرض قد تطور بشكل ملحوظ.

فهم الحمض النووي

يقوم الباحثون باستخراج الحمض النووي من الأسنان لتحديد العوامل المعدية للأمراض وإذا كانت قد تطورت على مدار القرون الماضية، مثل الطاعون الذي تسبب في قتل كثير من الناس بسرعة كبيرة دون ترك آثار واضحة.

كذلك يقوم فريق شارلييه بالتحقيق في حالات التسمم الناتجة عن التعرض لكميات كبيرة من المعادن الثقيلة مثل الزئبق والزرنيخ والرصاص الإِثْمِد أو الأنتيمون.

ويُتوقع أن يمكِّن التأريخ باستخدام الكربون المشع من معرفة عمر العظام، كما سيمكّن العد البسيط من إحصاء أكثر دقة لعدد الأفراد المدفونين في سراديب الموتى التي يتوقع شارلييه أن يتجاوز عددها 6 ملايين.

ومن المتوقع أن يقدم بحث الفريق، الذي دخل عامه الثالث الآن، أول نتائجه الأولية بحلول نهاية عام 2024، وقد يستغرق الأمر عقودًا لإكماله.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version