أن تلتقي «البيك» هذا يعني أنك أمام نبوءة سياسية جديدة، وفي الحدود الدنيا تخرج بنظرية سياسية، جنبلاط رئيس تكتل نيابي مهم في لبنان والرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي، لا يخطئ في الكثير من التنبؤات من بينها نبوءته بعد تحرير حلب بنهاية عهد الأسد في سورية.
من النادر أن تحظى بسياسي شفاف ويشاركك المخاوف والرؤى، لكن الاشتراكي العتيد ابن الاشتراكي العميق كان أكثر وضوحاً وشفافية في هذا اللقاء حين عبّر عن تشاؤمه مما هو قادم، دون أن ينسى أهمية وحدة وتماسك لبنان وإمكانية العبور إلى الضفة والهروب من تداعيات العالم الجديد وصراعاته.
جنبلاط الذي التقته «عكاظ» في مقره في شارع «كليمنصو» وسط العاصمة بيروت، كان حاضراً في الإجابة على كل القضايا، من العلاقة الغابرة مع بشار الأسد واللقاء الأخير الذي جرى بينهما في يونيو 2011 إلى آخر لقاء له مع قائد الإدارة الجديدة في سورية أحمد الشرع، معرّجاً على الكثير من تفاصيل الحياة السياسية اللبنانية من تشكيل الحكومة إلى مصير لبنان، وماذا يتمنى على حزب الله؟
اللقاء يحمل الكثير من الإجابات السياسية في لبنان وسورية والمنطقة.. فإلى التفاصيل:
• ما سر الانفراج الكبير في لبنان الذي أدى إلى حسم ملفَي رئيسَي الجمهورية والحكومة؟
•• ليس هناك سر، لكن هناك تغيرات إقليمية ولبنان جزء منها أدت إلى الانفراج إذا صح التعبير، لقد سقط نظام البعث في سورية في غضون أيام، وكذلك الضربات القاسية التي تلقاها حزب الله من إسرائيل، كنا نعيش في حالة ما يسمى توازن الرعب مع إسرائيل لكن هذا التوازن انهار، قد تمتلك مئات الصواريخ لكن إسرائيل تمتلك الآلاف من الصواريخ، بالإضافة إلى المعلومات، فضلاً عن الاختراقات داخل حزب الله بدءاً من اختراق أجهزة البيجر إلى اغتيال حسن نصرالله، كل هذه المعطيات بالإضافة إلى نهاية النفوذ الإيراني في لبنان، وكما تعلم إيران حكمت لبنان 24 عاماً منذ تولي بشار الأسد السلطة في سورية عام 2000.. كل هذا أدى إلى انفراجة كبرى.
• بمعنى أن البيئة التي توفرت بعد الضربات الإسرائيلية على حزب الله وهروب النظام السوري هي من أدت إلى الانفراج؟
•• بكل تأكيد، ونحن كنا من المطالبين بانتخاب الرئيس جوزيف عون رئيساً للبنان، وكان من نتيجة الانفراجات انتخاب رئيس الحكومة نواف سلام الذي يتمتع بمصداقية عالية في لبنان خصوصاً بعد الحكم الذي أصدره في المحكمة الدولية ضد مجرمي الحرب في إسرائيل.
تعطيل التشكيل الحكومي
• رغم هذا الانفراج إلا أن تعطيل التشكيل الحكومي مازال قائماً؟
•• هذه مشكلة قائمة في لبنان، ولكن لا بد أن ننبّه السياسيين اللبنانيين إلى هذا الأمر، فإسرائيل تستغل هذه الفراغ الحكومي، وما تزال تدمر القرى في الجنوب، وإذا ما تم التعطيل واستمر فإننا نعود إلى الماضي وكأننا لم نجرِ اختيار رئيس حكومة جديد، وإسرائيل تستغل كل هذه الأشياء في لبنان باعتبار أنه لا توجد حكومة.
• من بعض جوانب التعطيل الحكومي الجدل حول حقيبة المالية، التي يرى رئيس البرلمان نبيه بري أنها من حق «الثنائي الشيعي»، ويقال إن هذا جزء من اتفاق الطائف؟
•• هذا ليس صحيحاً إطلاقاً، الاحتفاظ بأي حقيبة وزارية ليس من اتفاق الطائف، إلا إذا كان هذا جرى في الكواليس أن تكون حقيبة المالية لمكون مذهبي معين، لكن الأصل في الموضوع أن تكون الحقائب الوزارية مدورة وتنتقل بين كل المكونات وليس حكراً على مكون ما.. أما وجود مثل هذا في اتفاق الطائف فليس صحيحاً.
الحريري لم يؤسس لهذا العرف
• لكن ثمة ما يقال إن رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري هو من أسّس لـ«عرف» أن تكون وزارة المالية بيد المكون الشيعي؟
•• هذا ليس صحيحاً أو بالأحرى لا أذكر ذلك إطلاقاً، فوزارة المالية كانت متنقلة بين كل المكونات السياسية والمذهبية في لبنان، وظهر لاحقاً في لبنان تصنيفات غريبة عجيبة، مثلاً خرجوا بفكرة وزارات سيادية وغير سيادية، مثلا الدفاع والخارجية والداخلية هي وزارات سيادية حسب التصنيف لبعض السياسيين في لبنان ومنها إدراج وزارة المالية، وهذا ليس من الطائف بشيء، ودعني أقول إن هذا معيب بحق لبنان بأن هناك وزارات من الدرجة الأولى والثانية وأيضاً لبناني من الدرجة الأولى والدرجة الثانية.
• ما هو موقف وليد جنبلاط من كل هذا الجدل؟
•• موقفي الإسراع في التشكيل الحكومي؛ لأن هناك أخطاراً محيطة بلبنان.. وأرى حروباً كبيرة في المنطقة، من غزة إلى الضفة إلى جنوب لبنان، لا بد لنا في لبنان أن نكون متماسكين ونتجاوز الفراغ الحكومي.
• أراك متشائما؟
•• هذا الواقع الحالي الذي تعيشه المنطقة، انظر إلى الفريق «التوراتي» في إسرائيل فهناك من يطالب باستيطان في جنوب لبنان، وفريق العمل الجديد في الإدارة الأمريكية لا يرى وجوداً لفلسطين، والضفة هي للحلم التوراتي.. نحن أمام مشهد مخيف، وهذا ينعكس على لبنان الذي يجب أن يتجنب كل أنواع التعطيل.
• لبنان كان دائماً يعيش على معادلة «إقليمي» في المنطقة، اليوم على أية معادلة يعيش؟
•• هناك مشهد جديد وأدوار جديدة في المنطقة، نحن نرى الدور السعودي الإيجابي العائد إلى لبنان بعد 15 سنة، وأيضاً الانفتاح السعودي على سورية، وهذا أمر مهم وإيجابي في المنطقة وبالدرجة ينعكس على لبنان، وبالتالي لبنان هو مرتبط بهذه التحولات الإقليمية.
«حزب الله» والعمل العسكري
• ما هي قوة وموقع حزب الله اليوم بعد الضربات الإسرائيلية؟
•• على السياسيين والعسكريين في حزب الله أن يدركوا أن الماضي انتهى وأن عليهم التوجه إلى العمل السياسي وترك العمل العسكري، وكلام رئيس الجمهورية جوزيف عون في خطاب القسم واضحاً وهو يجب أن يكون منهج لبنان، حين قال: «إن الذي بيننا وبين إسرائيل هي الهدنة»، لا نستطيع أن ندخل في حرب معلنة ضد إسرائيل لكن أيضاً لا نستطيع أن ندخل في تسوية وهذا أضمن للداخل اللبناني.
• ألا ترى أن لبنان بعد الضربات التي تعرض لها حزب الله واغتيال أمينه العام وقيادات الصف الأول، عليه أن يذهب إلى حوار مصارحة ومكاشفة ويتحول إلى حزب سياسي؟
•• نعم هذا أمر صحيح ولبنان بحاجة إلى ذلك، لكن هناك استحقاقات سريعة في الجنوب منها الانسحاب الإسرائيلي وسيطرة الدولة على الجنوب بدلا عن أي قوة أخرى خارجة عن القرارات الدولية وعن اتفاق الطائف.
نتجه إلى مأزق كبير
• القرار 1701 يحمل لبنان مسؤولية الانتشار في الجنوب بدلا من حزل الله، بمعنى أن الدولة أيضا أمام مسؤوليات.. ألا ترى ضرورة ضغط سياسي داخلي لبنان لتطبيق هذا القرار؟
•• في المرحلة الحالية لا نريد توترات في داخل لبنان بالشكل الذي تقصده لحوار مع حزب الله حول موضوع السلاح، هناك حكومة جديدة ودولة يجب أن يتم كل شيء عبر هذه الحكومة، ونزع السلاح من كافة المليشيات في لبنان، بما في ذلك السلاح الفلسطيني خارج المخيمات وهذا ما تم عليه في الحوار في العام 2006.
• إذن، برأيك إلى أين يتجه لبنان؟
•• لبنان يتجه إلى مأزق كبير في حال رفضت إسرائيل الانسحاب من الجنوب وفي استمرارها استباحة البشر والحجر، لكن لا مفر من المواجهة السياسية والوقوف صفاً واحداً وراء الجيش والدولة، وفي هذا المجال الأولوية تكمن في الإسراع في تشكيل الحكومة وهذا فوق كل اعتبار.
• هل تعتقد أن حزب الله تغير اليوم؟
•• أتمنى ذلك بكل صراحة، ولا أريد أن أتدخل في ولاءاته وفي عقيدته وأن يعملوا على إعادة إعمار الجنوب وبعلبك والضاحية والمدن اللبنانية التي دمرتها إسرائيل، وأن يدركوا أن هناك «لبنان» جديداً بعد الزلزال الأخير الذي ضرب البلاد إثر عملية 7 أكتوبر.
لقاء إيجابي مع الشرع
• كنت أول الزائرين إلى القصر الجمهوري في دمشق واللقاء مع قائد الإدارة الجديدة أحمد الشرع.. هل كان هذا بالاتفاق مع حلفائك في لبنان؟
•• كلا.. ذهبت وابني تيمور رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، وشيخ عقل طائفة الموحدين الدروز في لبنان الشيخ سامي أبو المنى، وباعتباري رئيس تكتل نيابي ورئيساً سابقاً للحزب مع بعض الشخصيات من الطائفة التوحيدية، فلم أمثّل أي أحد آخر.. وكان لقاءً إيجابياً مع الشرع لأني أعرف أن قوة ووحدة واستقرار سورية من مصلحة لبنان والمنطقة، وبالتالي عنوان سورية هو دمشق ومن هنا جاءت زيارتي.
• نقل عنك في وسائل الإعلام قولك: «يجب أن تنسوا ماضي أحمد الشرع»، فهل هذا صحيح؟
•• لا لم أقل ذلك، قلت في كلمتي أمام الشرع يجب الاحتفاظ بسجن صيدنايا وسجن تدمر والسجون الأخرى، حتى تتعلم الأجيال القادمة ماذا فعل حزب البعث بالسوريين.. كما تفعل بقية الدول فمعتقل صيدنايا يشبه معتقل «أوشفيتز» في بولندا.
استكمال مشروع سورية الجديدة
• هل ترى أن الشرع قادر أن يكون عنوان المرحلة الجديدة في سورية؟
•• يجب أن نعطي فرصة للشعب السوري الذي انتزع حريته من نظام البعث، وأعتقد أنه مع أحمد الشرع يستطيع أن يكمل مشروع سورية الجديدة بعد الحوار الوطني المزمع عقده، وأيضاً على المجتمع الدولي دعم هذه الإدارة لتتمكن من العمل وتحقيق الاستقرار.
• لكن تصنيف الشرع إرهابياً ما يزال قائماً.. كيف تنظر إلى هذا الأمر؟
•• في الحرب الأهلية اللبنانية صنفوني الأمريكيين إرهابياً، الكاثوليك الإيرلنديون صنفوا أيضاً كحركة إرهابية، ولاحقاً صافحت ملكة بريطانيا أحد قادتها، وياسر عرفات تم تصنيفه لسنوات على أنه إرهابي ومن ثم حصل على جائزة نوبل للسلام.. المهم الآن هو مساعدة سورية في هذه المرحلة وعدم الالتفات إلى الأحاديث التحريضية ضد الإدارة العسكرية الجديدة.
• كيف كان تصور الشرع للعلاقة مع لبنان؟
•• كان جداً منفتحاً على الحوار مع لبنان، ولديه رغبة في فتح حوار واسع، وهذا هو المطلوب في المرحلة الحالية أن تكون العلاقات دولة لدولة، كان هناك المجلس اللبناني السوري الأعلى وهذا لم يكن نافعاً وليس له أهمية، اليوم نتطلع إلى الحوار دولة لدولة ضمن قواعد الاحترام المتبادل ولقد لمست حرصه على هذه العلاقة.
• أنت ضيفاً دائماً على كل من يحكم سورية، من حافظ الأسد إلى الشرع؟
•• لقائي مع حافظ الأسد كان لقاء الضرورة نتيجة الأوضاع اللبنانية آنذاك، وكنت دوماً أختار طريق دمشق وسأبقى كذلك، ولا أريد حقيقة فتح صفحة الجروح لأنها باتت من الماضي.
آخر لقاء مع بشار الأسد
• متى كان آخر لقاء مع بشار الأسد، وماذا دار بينكم؟
•• كان آخر لقاء مع الأسد في يونيو 2011، ويمكن أن أقول إن هذا اللقاء لا ينسى.. وكانت الثورة السورية في بدايتها، سألته خلال الحديث «علي الأمان» فأجاب عليك الأمان، فقلت له ما هي قصة الطفل حمزة الخطيب.
قال لي لم نعذبه.. أجهزة الأمن قتلته وسلمته لأهله.. حينها صدمت من هذا الجواب.. وأكملت الحديث، كان يقرأ كل ما يدور في رأسي ويستعد للأجوبة. وقلت له ماذا عن عاطف نجيب، مدير الأمن السياسي في درعا في تلك الفترة الذي أمر بإطلاق النار على المتظاهرين فأجاب كان على الآخرين أن يدعو عليه ولكن لم يدع عليه أحد.. وكأن النظام السوري يقبل هذه الادعاءات وكان يتحدث كأنه في سويسرا.
• هل كنت تثق بوعود بشار الأسد حين كان في الحكم؟
•• أبداً إطلاقاً.. عرف بكذبه عالمياً.
• ماذا كذب على لبنان؟
•• ليس على لبنان فقط، بل على الكل بما فيهم حليفته تركيا التي كانت تربطه علاقة جيدة بها، وكذب على وزير الخارجية التركي السابق أحمد داوود أوغلو، كان يكذب حتى على المقربين منه، تصور أنه كذب على بثينة شعبان وأعطاها موعد لقاء لكنه كان يخطط للهرب.
• كيف تصف بشار الأسد؟
•• شخص جبان هرب من سورية ولم يدافع عن نفسه حتى إن أخاه هرب من دون أن يبلغه وهرب ماهر إلى كردستان، ومن ثم إلى روسيا.
• كان متعباً للبنان؟
•• الأسد كان مشكلة لبنان، مارس كل أنواع الاغتيالات بحق اللبنانيين، دخل النظام السوري على دم كمال جنبلاط وخرج على دم الشهيد رفيق الحريري، وبعد انسحاب الجيش السوري من لبنان بضغط عربي دولي رغماً عنه استمر بعد ذلك بالاغتيالات ولم يتوقف.
دعاوى قضائية ضد النظام السوري
• هل سيرفع لبنان دعاوى قضائية ضد أركان النظام السوري؟
•• نعم من الضروري ذلك، وبعد تشكيل الحكومة اللبنانية لا بد من رفع دعاوى قضائية بحق الضباط السوريين المتورطين باغتيالات بحق السياسيين اللبنانيين.
• ما هي خلفية زيارتك إلى تركيا وأهميتها؟
•• تركيا دولة محورية وإقليمية، وفي زيارتي التقيت الرئيس رجب أردوغان، وكانت في سياق الوضع في سورية، وكيف يتم دعم الإدارة الجديدة.. وأرى أن التعاون التركي – السعودي سيغيّر الوضع في سورية نحو الأفضل بكل تأكيد.
• تراقب الوضع في السويداء وما يجري فيها من انقسام.. كيف تقيّم هذا الوضع؟
• ستتبلور الأمور في السويداء بين الأحزاب والحركات والمجتمع المدمي، ولكني فعلاً لا أريد أن أعطي دروساً في الوطنية أو السياسة، من يريد سورية يجب أن يكون في دمشق ويتعامل مع دمشق، بالنسبة للسويداء لا أريد أن أدخل في هذا الموضوع.
• لكنك معني باعتبارك من وجهاء التوحيدين، يجب أن يكون لك موقف؟
•• لهم تقاليدهم وعاداتهم وخصوصياتهم، وهم جزء من المجتمع السوري لهم وضعهم الخاص وأتجنب أي حديث في التفاصيل، وأنا عربي أولا قبل أية انتماءات مذهبية.
ولكني أريد أن أقول شيئاً واحداً، الثورة السورية الكبرى التي انطلقت من السويداء والتي بدأها سلطان باشا الأطرش هي العنوان الحقيقي للمرحلة؛ لأن الثورة السورية آنذاك هي التي وحدت سورية وأعرف أن الكثير من أهالي السويداء يدركون ذلك.
هرب الجيش..
فانتهى النظام
• كيف تلقيت خبر هروب الأسد؟
•• عندما سيطرت الإدارة العسكرية على حلب وهرب جيش الأسد، قلت آنذاك في مذكراتي انتهى الأسد حينها، ومع بعض الأصدقاء في باريس قلت إن نظام الأسد انتهى وكانوا ما يزالون في حلب فقط.
• هل بدأت بكتابة مذكراتك؟
•• نعم بدأت في ذلك.
• هل أنت راضٍ على ما قمت به؟
•• أرى أنني قدّمت ما يمكن تقديمه للبنان وللحزب، والآن تيمور يسير على النهج نفسه.
• ما هي نصائحك وتوجيهاتك لتيمور؟
•• يتعلم من تجربته الخاصة، لا أعطي لهم توجيهات على الإطلاق.