بعد عامين من أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخ سريلانكا أطاحت آثارها بالرئيس آنذاك غوتابايا راجاباكسا، أعلنت لجنة الانتخابات في 22 سبتمبر/أيلول 2024 فوز زعيم الائتلاف اليساري أنورا كومارا ديساناياكي، بالانتخابات ليصبح رئيسا للبلاد.

ففي يوليو/تموز 2022، هروب راجاباكسا في أعقاب احتجاجات شعبية كبيرة على انتشار الفساد في البلاد بشكل كبير وتسلط العائلات السياسية وسيطرتها على مقاليد الحكم لقرون طويلة، وانهيار الدولة وإفلاسها.

ووصلت الاحتجاجات خلال جائحة كورونا إلى حد تعطل خطوط الإمداد والنقل، لدرجة لم يكن هناك قدرة للعمال وموظفي الدولة على التنقل الداخلي للوصول إلى أعمالهم بسبب عدم تمويل واردات النفط.

تزامن معه أيضا أزمة الاحتياطات الأجنبية والنقص الحاد في المواد الأساسية، مثل الأدوية، والغذاء، وغاز الطهي والوقود، إذ قضى الناس أياما في الانتظار في طوابير للحصول عليها.

تسلسل زمني للأحداث في سريلانكا منذ بدء الاحتجاجات الكبرى

أدى هذا لاندلاع احتجاجات شعبية واسعة ضد النخبة التي حكمت البلاد منذ أواخر السبعينيات وحتى الانتخابات في سبتمبر/أيلول 2024، وغلب عليها البعد العائلي والمصالح الضيقة، ومثلت حدثا هاما جدا في تاريخ البلاد، لأنها نقلت المزاج الشعبي لمكان مختلف.

وإذا كانت عائلة راجاباكسا على الصعيد الخارجي مارست سياسة أقرب لليسار، لكنها داخليا كانت تميل إلى اليمين من أجل الحصول على الحشد الشعبي وهو ما تسبب في مزيد من الفرقة في البلاد التي تتكون من طوائف مختلفة.

كما دعمت صعود اليمين البوذي واستغلت سلسلة الانفجارات عام 2019 في كنائس وفنادق واستهدفت فئة من الفئات بالشعب لإيجاد حالة من الترهيب لتعزيز السيطرة على الحكم.

وكشفت تحقيقات صحفية -منها الوثائقي البريطاني “تفجيرات عيد الفصح في سريلانكا”- عن تورط الرئيس المنتهية ولايته راجاباكسا وأخوه وزير الدفاع في تسهيل تنفيذ واستغلال هذه التفجيرات من أجل توفير الذرائع الكافية لعودتهما إلى الحكم.

التصويت العقابي

يعد فوز ديساناياكي (55 عاما) برئاسة البلاد سابقة تاريخية لسريلانكا، فهذه المرة الأولى التي يتقلد المنصب شخصية لا تنتمي لإحدى العائلات السياسية التي تداولت السلطة منذ الاستقلال عام 1948.

ودفع كل من الفساد وحالة الإفلاس ثم الاحتجاجات الشعبية الشارع السريلانكي إلى التصويت العقابي لصالح الرئيس الجديد وإعطائه فرصة للتغيير، وهو الأمر الذي يضعه أمام تحديات داخلية وخارجية كبيرة، أهمها الملف الاقتصادي والوحدة الوطنية والبيئة الإقليمية.

بالإضافة إلى أن نتائج الانتخابات أظهرت اكتسابه شعبية بين الشباب من خلال حملته المؤيدة للطبقة العاملة والمناهضة للنخبة السياسية، والمبنية على إعادة التفاوض مع صندوق النقد الدولي لجعل إجراءات التقشف أكثر قابلية للتحمل.

العلاقات الإقليمية

تعيش سريلانكا في بيئة وعلاقات إقليمية متشعبة، على رأسها العلاقة مع الهند التي كانت على مدى قرون طويلة تمارس علاقة الأخ الأكبر معها.

تحظى العلاقة بين البلدين بنوع من الحساسية بسبب خشية القومية الأساسية في سريلانكا -وهم السنهاليون البوذيون- من ابتلاع الهند الهندوسية للبلاد، وينظرون لهذه العلاقة من كونها حاجة المضطر ويحاولون الحفاظ على مسافة مع الحكومات الهندية.

وانتقد الرئيس المنتخب، في وقت سابق، مشروعا مشتركا مع الهند لإضراره بالسيادة الوطنية للطاقة على حد وصفه، وهو مشروع تشارك فيه مجموعة إنتاج الطاقة الهندية “أداني” في طاقة الرياح ومدته 20 عاما، وينص على استثمار 442 مليون دولار وتطوير محطتي طاقة الرياح في بلدة مانار وقرية بونرين، الواقعتين شمال البلاد.

في المقابل، تخشى الهند من المشاريع الصينية في سريلانكا واستخدام بكين لموانئها لأغراض عسكرية، بالإضافة إلى أن حزب الرئيس لم يخف تحفظاته على السياسة الهندية ومشاريعها “التوسعية”.

أما في العلاقة مع بنغلاديش، فمن المتوقع أن تحظى باهتمام وتوافق وأن تكون نشطة، نظرا لأن الحكومة في داكا جاءت نتيجة ثورة شعبية، وفي ظروف مشابهة للحكومة السريلانكية التي يشارك فيه المسلمون.

وبالنسبة إلى باكستان، فعلاقة سريلانكا تاريخيا جيدة معها منذ الاستقلال، لأنها كانت المحطة الأساسية الواصلة بينها وبين باكستان الشرقية سابقا قبل انفصالها لتصبح بنغلاديش.

وكانت الخط الطبيعي الذي يصل طرفا الدولة حينها، الذي كانت تقطعه الهند، كما ساعدتها في الحرب مع حركة التاميل التي سعت للانفصال وإنشاء دولة بالسواحل الشمالية والشرقية، لذلك فالعلاقة بينهما ستشهد تحسنا متوقعا للروابط المشتركة.

وأما المالديف، فستتأثر على الأرجح بالتغير الجاري لأنها تخضع لتأثيرات نفس الصراع، ما بين الصين من جهة والهند والولايات المتحدة من جهة، وسينعكس هذا التغيير عليها على المدى البعيد.

وفي العلاقة مع إيران، انعكس التوتر بين نيودلهي وطهران إيجابيا لصالح علاقة الأخيرة بسريلانكا، في حين من المرجح أن يتعزز استخدام نظام المقايضة التجاري بين البلدين خاصة في ملف النفط، إذ تستورده كولومبو من طهران مقابل الشاي.

ويسمح نظام المقايضة لإيران -التي تعاني من العقوبات الاقتصادية- بتجنب استخدام العملات الصعبة لدفع ثمن واردات الشاي، وتستخدم هذا النظام منذ عام 2021 لإبطال مفعول العقوبات الأجنبية.

كما من المتوقع أن ينسجم النظام الإيراني إلى حد بعيد مع النظام الثوري السريلانكي، لأن كليهما لديه توجهات متقاربة تجاه العلاقة مع القوى الإقليمية والغرب.

سريلانكا في الصراع الصيني الأميركي

أما على صعيد العلاقات الدولية، فسريلانكا على مدار 30 عاما تقريبا تقع في قلب الصراع الصيني الأميركي، خاصة بعد إعلان مبادرة “الحزام والطريق” عام 2013، وهي ضمن الدول الرئيسية في المبادرة، وشريكة في ما كان يسمى مشروع “عقد اللؤلؤ” وموانئها جزء أساسي في المبادرة، واستثمرت فيها بكين مبالغ ضخمة.

وحاولت الحكومات المؤيدة للغرب خلال الفترة الماضية تعطيل هذه المشاريع ووضعت العراقيل أمامها، لكنها لم تجد بديلا عن التمويل الصيني نتيجة الصعوبات التي تواجه الاقتصاد الغربي.

ومن المتوقع أن تعمل الحكومة المقبلة على استئناف هذه المشاريع لتطوير بيئة العمل وخلق الوظائف، وبالتالي تطوير علاقة أفضل مع بكين، وهو الأمر الذي قد يكون سببا إضافيا للتنافس بين الصين والولايات المتحدة، فيما ستحاول الهند لعب سياسة العصا والجزرة مع الحكومة السريلانكية المقبلة.

وفي السياسة الخارجية الصينية، تعتبر سريلانكا ذات أهمية جيوسياسية لها، خاصة في النزاع مع الهند ومحاولاتها بالتعاون مع الولايات المتحدة لتعزيز التحالفات المضادة لبكين ومحاصرتها إستراتيجيا وإقليميا، مع الإشارة إلى أن الصين الدائن الأول لها وأكبر مستثمر أجنبي مباشر في سريلانكا.

ومن صالح سريلانكا تعزيز العلاقات مع الصين، لإعادة جدولة الديون الخارجية لضمان استمرار تدفق التمويل من خطة الإنقاذ التي قدمها صندوق النقد الدولي بعد تخلفها عن سداد ديونها عام 2022.

ووصف الرئيس الصيني شي جين بينغ العلاقة بين البلدين، خلال تهنئة أنورا كومارا ديساناياكي لتنصيبه رئيسا للبلاد بأنهما “جارتان صديقتان تقليديتان تعملان -منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية قبل 67 عاما- على فهم ودعم بعضهما بعضا، وهو ما ضرب مثالا جيدا للتعايش الودي والتعاون متبادل المنفعة بين الدول المختلفة في الحجم”.

وتعهد شي بالعمل مع الرئيس السريلانكي لتعاون عال وأكثر إثمارا في إطار مبادرة “الحزام والطريق”، وتحقيق تقدم طويل الأجل في الشراكة الإستراتيجية.

الوحدة الوطنية

وفي ملف الوحدة الوطنية، يواجه الرئيس الجديد تحديات كبيرة، لأن حكم العائلات السياسية على مدار عقود من الزمن والقوى الخارجية عمل على تعزيز الخلافات بين الأعراق والأديان المختلفة بالذات بين السنهاليين والتاميل والبوذيين والهندوس، وهو ما سيشكل تحديا كبيرا، رغم أن وجود الرئيس الحالي الذي يحظى بتوافق كبير بين الشرائح المختلفة من الشعب ربما يعطيه مساحة من العمل.

لكن القوى الخارجية سيبقى لها تأثير في هذا الملف، خاصة أن بعضها يعمل على تغذية الإرهاب وإيجاد حالة من عدم استقرار في البلاد لإفشال أي حكومة لا تتوافق مع سياستها.

وهو الأمر الذي سيشكل تحديا أمنيا كبيرا، وبدون الأمن والاستقرار، لن يكون هناك نماء اقتصادي، وبالتالي يمكن أن يؤدي إلى فشل تجربة حكومة اليسار من خارج عائلات الحكومة التقليدية.

ويجب القيام بمجموعة من الإجراءات للنماء الاقتصادي، وأولها مواجهة الفساد المستشري في الدولة الذي دعمته العائلات السياسية التي حكمت سابقا والتي تمثل الدولة العميقة في البلاد، ومن الممكن أن يؤدي ذلك للمواجهة معها.

وبدون مكافحته وإصلاح النظام الاستثماري في البلاد يصعب أن يكون هناك حل للأزمة الاقتصادية، وهو ملف متفجر ينتظر الرئيس، كما أن إقناع الاستثمار الأجنبي في القدوم سيكون صعبا في الظروف الحالية، وغالبا هذا الاستثمار سيذهب للصين والدول الآسيوية الأخرى التي لها علاقات تاريخية مع سريلانكا.

ولن يكون مغريا للغرب الاستثمار في الحكومة اليسارية مع حفاظها على علاقات جيدة معها على غرار العلاقات التقليدية بين الدول.

كما أن ملف القروض والنفقات، خاصة الوقود يشكل تحديا كبيرا، وقد يساهم في تطوير العلاقات مع إيران في حل مشكلة الوقود نوعا ما، في حين أنه من المتوقع أن تلجا الحكومة لحل مشكلة القروض إلى الصين، خاصة أنها بحاجة لقروض إضافية لتطوير بعض القطاعات الهامة.

في المجمل، يواجه الرئيس الجديد تحديات كبيرة، أبرزها وأهمها الوضع الاقتصادي في البلاد وتردي الخدمات وهو السبب الرئيسي في الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت عام 2022 وأدت لإسقاط الرئيس، في حين ينتظره ملف العلاقات الإقليمية إذ يتوقع أن يتجه للتقرب من الصين على حساب الهند لأهداف اقتصادية والتقاء المصالح.

وسيكون ديساناياكي وحكومته المقبلة أمام تحد داخلي كبير، إذ سيعلن حل البرلمان، وفي حال انتخاب برلمان جديد متوافق مع سياساته سيساعده ذلك في تجاوز بعض العقبات، أما إذا جاء برلمان منقسم، فسيضيف لها تحديا جديدا.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version