على ما يبدو أن مطالب الصين وبعض المسؤولين الغربيين بالبحث عن بديل للدولار في اجتماعات مجموعة العشرين عقب الأزمة المالية العالمية 2008، مهّدت الطريق لأن تكون للصين إستراتيجية تجنبها الاستمرار بالبقاء تحت عباءة التبعية لأميركا، والتخلص من دورها المرسوم بأن تكون مجرد “مصنع العالم”.

فغير مرة مُنيت الصين بخسار مالية، بسبب التغيرات السياسية المالية والنقدية لأميركا، لما كانت تمتلكه الصين من رصيد كبير في سندات الخزانة الأميركية، وكذلك محافظها المالية في الأسواق العالمية والأميركية.

والجدير بالذكر أن أرصدة الصين تراجعت منذ 3 سنوات تقريبا في سندات الخزانة الأميركية، لتكون في المرتبة الثانية بعد اليابان، بعد أن كانت في المرتبة الأولى لسنوات.

وأظهرت بيانات وزارة الخزانة الأميركية في مايو/أيار الماضي، أن الصين خفّضت قيمة استثماراتها في سندات الخزانة الأميركية إلى 767.4 مليار دولار، وهو الرقم الأدنى خلال الـ15 عاما الماضية، وكانت حصة الصين قبل ذلك تتجاوز التريليون دولار.

واتجهت الصين منذ ذلك الحين بخطوات بطيئة نحو توسيط العملات المحلية في تجارتها الخارجية مع دول الجوار. ولكن النقلة النوعية للصين على صعيد النظام النقدي العالمي، أتت مع اعتماد صندوق النقد الدولي العملة الصينية “اليوان” ضمن مكونات الاحتياطيات النقدية الرسمية للدول.

البترويوان

نعم، لايزال اليوان يتحرك ببطء على صعيد النظام المالي والنقدي العالمي، ولكن أن يكون إحدى عملات تسعير البترول، أو أن تتم عمليات لتجارة البترول بعملة غير الدولار، فنحن أمام مشهد له دلالته على صعيد إرهاصات نظام اقتصادي ونقدي عالمي متعدد الأقطاب.

ومنذ عدة شهور مضت، نشرت إحدى الصحف الأميركية، أن السعودية تدرس إمكانية بيع بعض صفقات النفط للصين باليوان، ولم يمض وقت طويل، حتى صرح وزير الصناعة والثروة المعدنية السعودي بندر الخريف، بالقول “إن السلطات السعودية منفتحة على تطبيق أدوات اقتصادية جديدة، بما في ذلك استخدام “البترويوان” في التسويات المتبادلة”.

وفي إطار الحملات الانتخابية الأميركية لمرشحي الرئاسة هناك، لم يكن البحث عن بديل للدولار في التسويات الدولية غائبا، ولكن وسائل الإعلام نقلت عن مرشح الرئاسة والرئيس السابق دونالد ترامب، أن سياسته ستكون معاقبة الدول التي تتخلى عن الدولار، وأنه سيفرض ضرائب جمركية بنسبة 100% على الدول التي تستبدل عملات أخرى بالدولار في تعاملاتها.

والجدير بالذكر أن ترامب في 2018، كان قد أشعل الحرب التجارية ضد الصين وبعض الدول الأخرى، وأربك حركة التجارة العالمية، وليس بمستبعد أن ينفذ ما وعد به، ففي فترة توليه للحكم في أميركا، التي انتهي في مطلع 2021، نفذ كل ما وعد به في حملته الانتخابية، ومن أبرز هذه التعهدات، تخلي أميركا عن تمويل العديد من المنظمات الدولية.

ولكن علاقة الصين بالسعودية بشكل خاص، وبدول الخليج بشكل عام آخذة في التزايد، وقد تمت مؤخرا مفاوضات بشأن إنشاء منطقة تجارة حرة بين الصين ودول الخليج، وإن كانت نتائجها أظهرت فشل تلك المفاوضات، إلا أن الأمر يظل قائما، وينتظر أن يتم التطرق إليه في الفترات المقبلة.

العلاقات الاقتصادية والتجارية

تطورت العلاقات الاقتصادية بين السعودية والصين بشكل كبير على مدار الفترة الماضية، حيث أصبحت الصين الشريك الأول تجاريا مع السعودية على مدار العقد الماضي، وحسب الأرقام المنشورة بتقرير البنك المركزي السعودي لعام 2023، فإن الصين تتصدر قائمة أهم 5 دول من حيث الصادرات والواردات بالنسبة للسعودية.

فأرقام عام 2022 تفيد بأن صادرات السعودية للصين بلغت 249.9 مليار ريال سعودي (66.64 مليار دولار) بينما الواردات السعودية من الصين بلغت 149.2 مليار ريال سعودي (39.7 مليار دولار)، أي أن إجمالي التبادل التجاري بين البلدين بلغ في ذلك العام نحو 106.3 مليارات دولار، وبما يحقق فائضا تجاريا لصالح السعودية بنحو 26.9 مليار دولار.

ووفق دراسة حديثة لغرفة أبها بالسعودية، تحت عنوان “العلاقات الاقتصادية والاستثمارية السعودية الصينية” والصادرة في مايو/أيار 2024، فإن الاستثمارات المباشرة السعودية في الصين بلغت 2.2 مليار دولار، بينما الاستثمارات الصينية المباشرة في السعودية بلغت 7.7 مليارات دولار.

وأفادت الدراسة نفسها بأن قيمة التبادل التجاري بين البلدين في عام 1995 كان بحدود 913 مليون دولار. وعن أهم الصادرات السعودية للصين وفق بيانات 2022، أتى الوقود في المقدمة بنسبة 85% من الصادرات السعودية للصين، بينما مثلت باقي الصادرات من كيماويات عضوية ونحاس ومصنوعاته ومطاط ومصنوعاته وأسماك وقشريات 15%.

والجدير بالذكر أن الصادرات السعودية للصين، تمثل 2.2% فقط من إجمالي الواردات الصينية، التي تزيد على 2 تريليون دولار، حسب بيانات عام 2022.

أما عن الواردات السعودية من الصين، فالآلات والأجهزة والمعدات الكهربائية مثلت نسبة 23.6%، والمراجل والآلات والمعدات مثلت 15.4%، وباقي الواردات ما بين الملابس والأثاث والسفن والقوارب.

Saudi Crown Prince Mohammad Bin Salman (R) meets with Chinese President Xi Jinping (L) at the Great Hall of the People in Beijing, China February 22, 2019. How Hwee Young/Pool via REUTERS

الإستراتيجية الصينية وتعدد المسارات

إستراتيجية الصين فيما يخص وجودها على خريطة الاقتصاد العالمي، لا تعرف التمركز في المعاملات المالية والاقتصادية، ولكنها تمدد أذرعها في اتجاهات مختلفة.

ففي الوقت الذي تحافظ فيه على علاقاتها المالية والتجارية مع أميركا والغرب، رغم ما بينهم من حرب اقتصادية، فإنها تهتم بدول الخليج، وكذلك بتقوية فاعلية مجموعة البريكس ولديها تعاملات جيدة على صعيد روسيا وإيران، وهما الدولتان اللتان لديهما علاقات سيئة مع أميركا والغرب، بسبب العقوبات الاقتصادية المفروضة عليهما.

غير أن الملمح المهم في علاقة الصين مع روسيا وإيران، يتعلق بتفعيل اليوان الصيني في التعاملات المالية الخاصة لروسيا وإيران، وكذلك تسوية المعاملات التجارية للصين في جزء كبير منها بالعملات المحلية لروسيا وإيران.

ويعد النفط هو السلع الرئيسة، التي تستوردها الصين من كل من روسيا وإيران، حيث تشير دراسة غرفة أبها إلى أن أكبر 5 دول مصدرة للنفط للصين هي (روسيا 85.3 مليار دولار وبنسبة 15.9%، السعودية 56.6 مليار دولار وبنسبة 10.5%، والإمارات 39.8 مليار دولار بنسبة 7.4%، والعراق 39.3 مليار دولار بنسبة 7.4%، وماليزيا 38.9 مليار دولار بنسبة 7.3%).

أما عن إيران، فنظرا للعقوبات المفروضة أميركيا وغربيا، فإن النفط الإيراني يتم تصديره إلى الصين بشكل غير رسمي، على الرغم من إعلان الصين أنها ترفض العقوبات أحادية الجانب، ويتم تصدير النفط الإيراني للصين تحت لافتات إماراتية أو ماليزية أو عمانية، إلا أن رويترز ونقلت عنها وسائل إعلام أفادت بأن الصين تعد أكبر مستورد للنفط الإيراني المهرب خارج نطاق العقوبات.

وقد شهدت العلاقات التجارية الصينية الروسية زيادة ملحوظة، فبلغت بنهاية عام 2022 نحو 240 مليار دولار تقريبا، منها صادرات روسية بنحو 129.1 مليار دولار، بينما بلغت الواردات الروسية من الصين 110.9 مليارات دولار، ويعود الفائض التجاري لصالح روسيا، بسبب صادراتها من الوقود للصين.

النظام العالمي والبترويوان

الخطوات في إطار نظام اقتصادي متعدد الأقطاب، تسير ببطء ولكنها تشهد تطورات جديدة، فلم تكن تصريحات الوزير السعودي الوحيدة في إطار دراسة البترويوان، ولكن ثمة تصريحات صدرت عن رئيسة مجلس الاتحاد الروسي فالنتينا ماتفيينكو في مطلع أغسطس/آب الماضي، أعربت عن أملها أن تعلن مجموعة “بريكس” خلال قمتها المزمعة بروسيا في أكتوبر/تشرين الأول المقبل عن موعد إطلاق منظومة موحدة للحوالات المالية تحل محل نظام “سويفت”.

ومن الطبيعي أن تعارض أميركا والغرب وجود أي تغيير في آليات النظام النقدي، لما يمكنهما من الإمساك بمفاصل الاقتصاد العالمي، عبر سيطرة عملتيهما، فلا يزال الدولار يغطي 59% من الاحتياطيات الرسمية من النقد الأجنبي، واليورو 20%، وباقي العملات الست الرئيسة تغطي نحو 20%، واليوان الصيني لا يبلغ حاليا 3% من الاحتياطيات الرسمية من النقد الأجنبي.

ولكن الأمر الواقع وحسبة المصالح هي من سيصنع المستقبل، وسوف يعين على ذلك الخرائط السياسية، التي تشهد هي الأخرى تغيرات مماثلة وتنبئ بميلاد نظام عالمي متعدد الأقطاب.

ولو نظرنا إلى تبني الصين إستراتيجية في تغيير بنية النظام العالمي، والعمل على وجود دور فاعل بالنظام العالمي المرتقب، نجد أنها تسير بهدوء ولكنها تحقق نجاحا، فبعد اعتماد عملتها في سلة الاحتياطيات الرسمية للنقد الأجنبي للدول، توجهت لإطلاق “بنك البنية التحتية”، ثم زيادة فاعلية تجمع “بريكس”، وتوسيع رقعة التعاملات باليوان والتبادل بالعملات المحلية في التجارة البينية.

ودائما ما تلتف أميركا والغرب، على تجارب الاستقلال الذاتي، أو محاولة المشاركة في إدارة النظام العالمي، واستخدمتا في سبيل ذلك كافة الأدوات والوسائل، بما فيها العسكرية أو السياسية، أو الضغوط الاقتصادية، ولكن هل ستفلح تلك المحاولات هذه المرة مع الصين؟

الأمر سيتوقف على مدى تفاعل الأطراف الأخرى مع التجربة الصينية، والتوجه نحو البترويوان.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version