وتطور الحياة لا يعترف بالبديهيات، إنما يعترف بالمتغيرات، وفي ظل الحركة لا يكون هناك ثابت، والمتغير يقلق الساكن، فأنْ تقذف حجراً صغيراً تستطيع به تغيير سطح نهر أو بحر ساكنين.
والكون دوائر متعددة، ولكل دائرة مركزها، والمركز الرئيس تتشكل أشكاله الهندسية لكي تكون هناك قابلية التغير، إذ لا جدوى من الحركية في ظل سكون، أو ثبات المركز، ولذا علينا التنبه لقوله تعالى (يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن) (الرحمن 29).
فكل حركة لها مركزية خاصة بها، وجميع الدوائر تتحرك وفق مركزية الدائرة الكبرى أو ضمن إرادة الحقيقة المطلقة. فكل المفاهيم متغيرة إلا الله -عز وجل- يحرك كل شيء بإرادته.
ما علاقة القول السابق بالرواية؟
الحياة من أولها إلى آخرها حكاية، حالة سردية لها بداية وذروة ونهاية، وكما يرتهن الناس لنتائج مكتشفي عمق الفضاء، أو عمق المحيطات، أو في عالم الحيوان أو الحشرات من غير الارتهان إلى أعماق النفس وتغيراتها، جاء الروائي لاكتشاف تضاريس النفس البشرية وليس أدل على ذلك من أن علم النفس نهض على روايات ديستوفسكي.
منذ الخلق إلى الآن، ما الذي تغير من أمكنة ومعارف؟ الكثير طبعاً، وكما تتوالد فروع الحياة، تتوالد المعارف، وكل معرفة تجذب الدنيا إلى طور مغاير لما كانت عليه، (وقد خلقكم أطواراً).
وعبر آلاف السنوات كانت الحياة تسير بثلاثة أبعاد: طول وعرض وارتفاع حتى جاء آينشتاين بالبعد الرابع الذي أطلق عليه الزمن، وبفرضية أن الزمن هو المغير في الأشياء رست الأفهام على هذا الظن، ولو حركنا الكراسة قليلاً، فلن يكون هناك زمن بل يوجد المكان كعنصر رئيس، ومع التغيرات التي تحدث للمكان عندها نشعر بالزمن، وهذا شعور وليس حقيقة، فهي حقيقة افتراضية، فالمكان هو المسيطر في كل التغيرات وكل الأبعاد. حالة أخرى وصل إليها العقل البشري مؤخراً ألا وهي نظرية الأوتار، ومن المؤكد وصول العقل إلى نظريات أكثر قرباً من الصواب.
ونظرية الأوتار منتج رياضي تصوري أن الكون في حالة وترية حلقية، وأخرى مغلقة متناهية الصغر لا سمك لها، وهي في حالة عدم استقرار، وقياس التذبذب مرتهن لموقع الوتر، وبتغير موقعه يحس الراصدون بالزمن، فالزمن شعور ينتابنا من خلال تغير المكان.
ويمكن إعادة السؤال: ما علاقة كل هذا بالرواية؟
حسناً، سن للروائي بأنه يسير في سرديته وفق المثلث الأرسطي بثلاثة أبعاد هي (المكان والزمان والشخصية)، والمفاهيم الراسخة أن الزمن ضرورة سابقة على الأبعاد الحياتية التي يسير بها، بينما الزمن مطاوع في السرد، ويستأثر بالماضوية وخاصة الرواية، هي في حالة (كان) بينما الكون في حالة (كن)، وجاء أمر (كن) وفقاً لتغير المكان، لنعد مرة أخرى إلى أبعاد الروائي أثناء الكتابة.. بدءاً ووفق المتعارف عليه أن هناك زمناً خارجياً (المكان) وزمناً داخلياً (وهو النفسي)، وبمقاربة الحالتين يمكن التمييز بأن زمن الحلم ثوانٍ بينما في خارج الحلم يكون الوقت أكبر بكثير عما هو عليه في الحلم.. وقد أجريت تجربة لمزارع بالتنويم المغناطيسي مطالبينه بعدّ الوردات التي يشاهدها، وعندما يصل في عدّه إلى 2000 وردة ساعتها ينطق بأنه عدّ العدد المطلوب، وكانوا يقيسون الزمن بين البداية والنطق ببلوغه 2000، فوجدوه لم يستغرق سوى عُشر ثانية لينطق بوصوله للعدد المطلوب، فيكون الزمن مغايراً بين المنوم وبين الملاحظ، وفي الحالتين كان المكان هو المؤشر لحساب الزمن.. كما أننا تعارفنا معرفة شبه يقينية بأن هناك أزماناً مختلفة (زمن الملائكة، زمن الجان، زمن القبر، وزمن الضوء، وزمن الصوت) في هذه الأزمان أُغفل المكان بينما هو الأساس، وإذا قلنا إن كل حركة لها زمن يفترض القول إن كل حركة لها مكان وليس زمناً.
في بداية حياتي (حينما كنت غلاماً) كنت مشغولاً بفكرة الأراضي السبع، ومع انشغالي بالقراءة والكتابة وصلت إلى حل للأراضي السبع في رواية الطين (حل يرضيني أنا شخصياً على الأقل)، فتغيرات، وتشكلات المكان أحالتني إلى سرعة النفس، وسرعة المكان أيضاً إذ يكمن التغير، هذا إذا اعتبرنا أن هياكلنا البشرية هي الأمكنة، وأي تغير في النفس يشعرنا بالزمن.
من تلك المراهقة الأولى -وأتمنى ألا أوصم بالمراهقة الفكرية- في ذلك الوقت كان المكان هاجسي عندما كنت أبحث عن الأراضي السبع، فجدلية المكان والسرعة يكون الشعور بتغير الزمن.. وهذه المعضلة الزمانكية يقف عليها السارد، فالسرد متغير من مكان لآخر وفق الكلمة أو الجملة، فالمفردة المكتوبة في أول الرواية تتغير بتغير مكانها في الرواية فالساردة الشعبية تقول:
«بلاد تشله وبلاد تحطه» فالزمن لديها هو المكان وليس الزمان، أو القول انتقل من جدة إلى تبوك، فالمكان معروف في ذهنية الساكن لمدينتين، وإن غابت عن المستمع تفاصيل المكان ستكون ذكرى المدينتين متخيلة بالمكان وليس بالزمان، والساكن للمكانين يعرف التغيرات المكانية، وقياسه الزمني بتلك المتغيرات يكون بسبب تغير المكان.
وإذا كانت أبعاد السارد هي (المكان والزمان والشخصية)، وقد قمت بدمج الزمانكية في عنصر واحد وهو المكان، تصبح الشخصية كنفس متحركة أثناء السرد (والنفس مكان تسكن في هذا الجسد).
ولو أردنا الاستشهاد بقوله تعالى (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) (الأعراف 172). ومن هذه الآية الذي حضر هو المكان (ممثلاً بالنفس) وليس هناك زمن، فالنفس حضرت، وفقدت الإدراك في ما بعد هذه الواقعة؛ أي أن المكان تغير، وإذا قرأنا الآية نقول وفق المفهوم الزمني في مخيلتنا أنه حدث في زمن لا نعلمه، ولكن نؤمن بحضورنا والنطق بالشهادة في مكان بعينه لا يعرفه إلا الله.
والنفس حضورها في السرد يتشكل وفق مواصفاتها الداخلية، إذ إن لها ثماني حالات مثبتة إيمانياً، فأنواع النفس هي:
اللوامة (ولا أقسم بالنفس اللوّامة)، الراضية (ارجعي إلى ربك راضية)، المرضية (ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي)،، والمطمئنة (يا أيتها النفس المطمئنة) والأمارة (وما أبرّئ نفسي إن النفس لأمّارة بالسوء)، والملهمة (ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها)، والكاملة (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا)، والزكية (قتلت نفسا زكية).
وقد دأبت على سن الأفكار لكل رواية أكتبها، فالأفكار سابقة للحكاية بالنسبة لي، تلك الأفكار تتنقل بين شخصيات العمل، لا أذكر أني كتبت رواية ثنائية، بل أنفس متشابكة بأفكارها وطبيعتها وتنوعها بين الأنفس الثماني، حتى إذا اجتمعت في عمل واحد حدثت الدراما بين تلك الأنفس، بحثاً عن التكامل، فالناقص يجبر، والمنحرف يعدل، والشر يخفف، والخير ينمو من خلال ذهنية القارئ الباحث عن اكتماله الإنساني.
وكل سرد هو محاولة إصلاح لتلك النفس، والأدب يسعى لإصلاحها من خلال القيم العظيمة حتى ولو كان الشر طاغياً في العمل الروائي فإنه يظهر المقابل له تماماً، ويحفز نفسية القارئ للانتقال إلى الضفة الأخرى ليسمو بنفسه.