يعد البحث عن نماذج من الأدب الأفريقي المكتوب باللغة العربية مهمة شاقة، ربما لأن هذا الأدب وليد جديد، أو لمحدودية الموضوعات التي يعالجها، وهي التي تتناول في أغلبها الحياة في البلاد الأفريقية وما تعانيه من قهر ونزوح وتهجير، وربما هناك سبب ثالث وهو القصور في التعريف بالأدب الأفريقي الذي يظل مجهولا عند الكثير من القراء في العالم العربي.
كما تندر ترجمة الأدب الأفريقي المكتوب بالفرنسية والإنجليزية إلى العربية، ويعاني الاقتصار على بعض الأسماء المشهورة فحسب مثل أديب نوبل النيجيري وول سوينكا، ومواطنيه تشماماندا أديتشي، وتشينوا أتشيبي، وأخيرا الروائي التنزاني عبد الرزاق جرنة الذي حاز جائزة نوبل للآداب للعام 2021.
في رحلة البحث عن الأقلام الأفريقية التي تكتب باللغة العربية يمكن العثور على العديد من الأسماء من نيجيريا وغينيا، وتشاد، والسنغال، والنيجر، ومالي والصومال، لكن لا يمكن الوصول إلا لعدد قليل من الأسماء.
وعرفت أفريقيا اللغة العربية منذ وصول الإسلام، لكن الاستعمار فرض لغته بعد سيطرته لتصبح اللغة الرسمية في البلاد.
وفي هذا الاستطلاع وجهنا عددا من التساؤلات لكتابٍ من السنغال وتشاد ونيجيريا منها، ما هي الصعوبات التي تواجه الأدب المكتوب باللغة العربية، ما هي أسباب غياب الأدب الأفريقي المكتوب بالعربية عن الحضور في العالم العربي؟ هل استطاع الجيل الجديد الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة لإيصال صوت المثقف الأفريقي إلى العالم الآخر؟ وإذا كانت الفرنسية هي لغة الكتابة الأولى، من هم قراء الأدب المكتوب باللغة العربية؟
تشاد
اعترفت الشاعرة التشادية مريم أبكر نكور بتقصير الأدباء التشاديين في التعريف بالأدب التشادي خارج بلدها، خاصة أن المهمة اليوم باتت سهلة في وجود مواقع التواصل الاجتماعي، حيث أصبحت المشاركة في مسابقة عالمية تتم بكبسة زر، ونشر قصيدة بفتح كاميرا وميكروفون، “لا أجد ما يشفع لنا هذا التقصير”، بحسب قولها.
وتضيف، “أذكر هنا لا للحصر مشاركة الشاعر حسب الله مهدي فضلة في مسابقة (شاعر المليون) وكذلك لا أنسى القاص الموهوب طاهر النور الذي لا يزال يجوب كالسندباد من دولة لأخرى ومن تتويج لآخر حاملا لواء الوطن. يلعب كذلك تنظيم المسابقات والملتقيات الثقافية الدولية دورا مهما وفعالا في مسألة إثبات الوجود”.
وتردف نكور، “قد يسافر اللبناني إلى مصر وقد يسافر السوري إلى تونس أو إلى الجزائر وبهذا يتم تبادل الثقافات والتعرف على الأدباء والكتاب، أما فرصة السفر من وإلى تشاد بالتحديد تبدو ضئيلة وبهذا يجهل العرب من نحن، فالكاتب التشادي يجد تهميشا وتجاهلا كبيرا من قبل القارئ العربي، حيث يعتقد من يجهلنا أننا نتحدث الفرنسية فقط. أو نتحدث بلغة عربية ركيكة هشة لا علاقة لها بالفصحى، ومن يعرف حقيقتنا قليل”.
ولا تستطيع مريم أبكر نكور الجزم أن القارئ التشادي مهتم بالأدب التشادي المكتوب باللغة العربية، لكنها تؤمن أن هذا الأدب يستحق القراءة.
وتلفت نكور إلى طبيعة المجتمع التشادي المتحفظ، ويزيد التحفظ في دائرة “العربفون” (المثقفون بالعربية من خريجي الجامعات العربية وغيرهم)، وكون القصائد عربية فالجمهور عربفوني صرف وهنا يكمن التحدي، حيث لا يصبح للشاعرة إلا خيارين لا ثالث لهما: إما أن تتحلى بالشجاعة وتلقي ما كتبت من قصائد غير مهتمة بالأحكام والانتقادات الشخصية، وإما أن تختبئ تحت جلباب الحياء وتصمت. أما من تحاول الإمساك بالعصا من المنتصف فلا أعتقد أنها ستستمر طويلا، بحسب قولها.
مريم أبكر نكور التي تقيم اليوم في العاصمة أنجمينا، بدأت علاقتها باللغة العربية في ليبيا حيث عاشت طفولتها، وهناك تعرفت على الشعر من خلال مناهج اللغة العربية. منذ الصفوف الابتدائية وهي تتذوق الشعر وتحتفظ بكتب النصوص والدراسات الأدبية وتقرأ من حين لآخر قصائد للإمام الشافعي وامرئ القيس ولأبي البقاء الرندي، واللغة العربية هي لغتها الوحيدة، فالشاعر برأيها لا يكون شاعرا بلغة لا يتقنها.
السنغال
من جانبه، يرى الأستاذ المساعد بكلية اللغة العربية الدكتور السنغالي محمد نيانغ أن الأدب العربي الأفريقي – مع ما فيه من حمولات ثقافية، وكنوز معرفية – حاضر غائب عن الوطن العربي.
ويرى نيانغ أن الغياب هو الغالب المسيطر، لأسباب كثيرة، بعضها ثقافية واقتصادية، وبعضها عائد إلى القراء والمثقفين العرب أنفسهم، فقلة ذات اليد من معظم منتجي هذا الأدب (العربي) أثرت سلبا في عدم قدرتهم على الطباعة والإخراج.
ويفسر نيانغ غياب الأدب العربي-الأفريقي عن البلاد العربية بعدم وجود مطابع جادة نزيهة مساهمة بقوة في احتضان هذا الأدب، وإخراجه للناس بصورة لائقة راقية، إضافة إلى أن الدول العربية – ويقصد المثقفين فيها والمهتمين بالثقافة سواء الجهات الشخصية منها أو الحكومية – لم يولوا اهتماما بالتعرف على هذا الأدب الذي هو جزء أصيل من أدبهم، رغم كونه مكتوبا باللغة العربية وإن كانت بيئته نائية عن الجزيرة العربية.
ويكمل الأكاديمي السنغالي “إن كانت هناك جهود تذكر فإنما أكثرها تصب في قالب إقامة برنامج ساعة، أو مقابلة صحفية محدودة، أو أمسيات أدبية تتوقف فائدتها في الغالب حيث انتهت الجلسات، وأعتقد يقينا أن السفارات العربية القائمة بالسنغال لو زادت الجهود في افتتاح مراكز بحثية، وأندية أدبية، تكون راعية لها، وتقيم لها مشاريع سنوية تعكس صورة هذا الأدب على أحسن وجه، لوصل إلى الوطن العربي إبداع أفريقي أصيل مكتنز علما وثقافة على طريقتهم الخاصة، وطريقة العرب في الكتابة والإبداع”.
ولا ينكر محمد نيانغ وهو أيضا كاتب وشاعر وعضو نادي السنغال الأدبي أن هناك جهودا – في الآونة الأخيرة – لمحاولة اكتشاف هذا الأدب الأفريقي العربي، وبعثه من مرقده، لكن ذلك لا يكفي، فبرأيي أن الجهود المبذولة داخل الوطن العربي لخدمة الأدب العربي لو صرفت إلى الدول الأفريقية للوقوف على حقيقة آدابها العربية لكان ذلك إضافة نوعية وحقيقة للأدب العربي، وللقراء والمثقفين العرب، في تلقيح ثقافاتهم، وتزويدها بمحصلات أخرى مفيدة. ولكان ذلك دعاية جاذبة إلى إجراء بحوث علمية وأدبية حوله.
العربية قبل الاستعمار
وتحدث محمد نيانغ عن حضور الثقافة العربية في السنغال، وكيف أنها صافحت البلاد الأفريقية قبل ملامسة الاستعمار هذه المنطقة النائية في غرب أفريقيا (السنغال)، مع اختلاف في تحديد فترة وصولها.
وبالرغم من وجود الاستعمار وحضوره في كل المناحي الحياتية، الذي حاول محو العربية واستئصالها من جذورها الضاربة في العمق، على سبيل المثال كانت المكاتبات بين الملوك وأصحاب الجاه والسلطة، قبل الاستعمار، بلسان عربي مبين، حتى المستعمر الفرنسي في وقته كان مضطرا إلى استقطاب كتبة من المثقفين المستعربين سواء داخل البلاد أو خارجها، ليكونوا همزة وصل بينه وبين الشعب المخاطب الذي لا يكاد يفقه حديثا في اللغة المستعمرة، وهذا دليل قوي على حضور الثقافة العربية منذ أمد سحيق، بحسب الشاعر والأكاديمي السنغالي.
ويضيف نيانغ: “أن التراث العربي هو أضخم تراث وثقافة عرفهما القطر السنغالي، وقد انعكس ذلك في حياة السنغاليين في كل مناحيها وأرجائها الاجتماعية منها والعلمية والثقافية، فتجد ذلك التأثر في استعمال أسماء الأشخاص، والأماكن، إضافة إلى البصمة الواضحة الراسخة التي تركتها الثقافة العربية في السنغال في كل المجالات، وخاصة المجال الأدبي. ولذلك ولى معظم الكتاب المثقفين الإسلاميين وجهتهم إلى الجوانب التي خاضها العرب في كتاباتهم العلمية والإبداعية، حتى في الأدب الشعبي تجد البحور المستعملة هي تلك البحور العربية الخليلية، لا يحيدون عنها قيد أنملة”
ويستدرك “لا يعني حضور الثقافة العربية اختفاء الثقافات الأخرى، بل أنك تجد في كثير من النواحي أن الثقافة الفرنسية ما زالت حاضرة بقوة في نفوس السنغاليين، وفي ربوعهم الممتدة، ولعل مرد ذلك كون السنغال دولة علمانية تابعة لفرنسا حتى يومنا هذا، دون الانسلاخ منها، أو محاولة افتراع طريقة وطنية صرفة” بحسب وصفه.
صعوبات في نيجيريا
أما الشاعر النيجيري عبد الرحيم مدثر، فيشير بدوره إلى أن الصعوبات التي تواجه الأدب المكتوب باللغة العربية في نيجيريا تتمثل في أربع نقاط هي:
- كيان اللغة العربية كلغة ثانية للشعراء والنثار.
- واختيار الكلمات المناسبة لأداء المعاني المقصودة.
- وعدم معرفة الفرق بين اللغة العادية واللغة الفنية.
- وتكلف اللغة المثالية في غير مناسبتها.
ويضيف: “ملامح التجربة الشعرية في نيجيريا يمكننا تلخيصها في انزياح اللغة ببعد الثقافة، الكلمات الفنية وإيحاءاتها، المزج بين التراث العربي والتراث الغربي، المناجاة وبلاغتها، التطلع إلى الفلسفة وتعبيرها”
وعلى جانب آخر يتابع عبد الرحيم مدثر أن الأسباب وراء عدم دراية القارئ العربي بالأدب النيجيري المكتوب باللغة العربية تعود لعدم استخدام الكلمات المعاصرة والمتداولة إضافة إلى ثقافة الشاعر القاصرة عن بيئته، ومحاولته ترجمة اللغة المحلية إلى اللغة العربية.
ويرجع مدثر ـوهو ناقد أيضا يقيم في مدينة أَوْيَوْ النيجيريةـ بدايات الكتابة بالعربية في نيجيريا إلى عصر الاستقلال وهي التي بدأت بالمسرحيات النثرية على أيدي كبار اللغويين الأكاديميين أمثال “العميد المبجل” (1994) للأستاذ الدكتور زكريا حسين، و”الأستاذ رغم أنفه” (2001) للإمام اللغوي مسعود عبد الغني، و”قَدْ غارت النجوم” (2005) للشيخ عبد الغني أَلَبِيْ، و”العجيب والنجيب” (2005) للسيد أحمد سعيد الرفاعي، وغيرها.
وكذلك الدواوين الشعرية منها “ديوان الرياض” (2005) للدكتور الشاعر عيسى أَلَبِيْ، و”نسمات البحر من نغمات الشعر” (2005) للسيد عبد اللطيف سعيد أَوْلَاوُمِي، و”دمالج الشعر في نتائج الفكر” (2006)، ومرثية “سطور مع شهيد الأمة” لفضيلة الشيخ عبد اللطيف الكَبَرِيّ (2007) وكلاهما للسيد عبد القادر يونس أوغانيجا و”ديوان القلائد” (2007) للشاعر عبد الواحد جمعة أَرِيْبِيْ.
صوت النساء
ويرى عمر لي – وهو باحث وروائي من دكار “المجتمع السنغالي من المجتمعات المحافظة التي تضع قيودا على صوت المرأة حفاظا على توازن المجتمع، الأمر الذي جعل الساحة الأدبية السنغالية تفرز كاتبات يتخذن الأعمال الإبداعية مطية لرفع أصواتهن”.
وينوه عمر لي برواية “رسالة طويلة جدا”، 1979، كأشهر رواية نسائية، وكانت هذه الرواية المكتوبة بالفرنسية تتسم بطابع نسوي وتنقد المجتمع الذكوري الذي كثيرا ما يعبث بحقوق النساء.
وقد عرفت الرواية السنغالية الفرنسية روائيات كثر مثل: آمنة صو فال، وفاتو جوم برواياتها التي تجسد حياة الغربة في أوروبا، والصحفية فاتي جنغ، وعند مقارنة الأصوات النسائية بالفرنسية مع الأصوات العربية فإننا نجد أن الأعمال الإبداعية لا تكاد تجد كتفا أنثوية تتكئ عليها، فلم يصدر بعد عمل إبداعي عربي من امرأة سنغالية، لا ديوان شعر ولا رواية ولا قصة، صحيح أن ثمة كاتبات وشاعرات لكن ما إن يشتعل نور الكتابة فيهن حتى ينطفئ، بحسب الباحث السنغالي.
وعلى جانب آخر، يتابع عمر لي أن الكتابة لم تكن تحتل مكانة مهمة في المجتمع السنغالي رغم تعاملهم مع الكتب الإسلامية منذ القرن العاشر الميلادي، وعليه فلم تظهر الكتابة الإبداعية إلا في فترة متأخرة، يحدد بعض النقاد ظهور الكتابة الإبداعية في القرن ال18، مشيرا إلى أن أشعار الفقيه الغرب أفريقي الكبير عمر بن سعيد الفوتي (1796-1864) هي أقدم ما عثر عليه في الشعر العربي الإسلامي، وقد ظلت الأقلام السنغالية تتناول الشعر العربي وتبدع فيه، ولم يمنعها الاستعمار من تعاطي هذه اللغة والإبداع فيها، بيد أنها لم تكتشف الرواية العربية إلا في نهاية القرن العشرين مع الصحفي الحاج سيلا في روايته “إلى أين”، وهي رواية سيرة ذاتية، وبعدها أخذت الرواية العربية السنغالية تبحث عن صوتها حتى أصدر الروائي السنغالي أبو بكر إبراهيم أنجاي روايتيه الشهيرتين “جريمة ولكن” 2016″ و”الهاربات من الجنة”، 2018″، وقد نالت قصته القصيرة المعنونة ب”بائعة السمك” جائزة أفرابيا (التي يقدمها مجلس الشباب العربى والأفريقى).
ويرى عمر لي، أن من الصعب جدا أن يصل المشهد الثقافي الأفريقي لذروة التقدم نظرا لكثرة اللغات الأفريقية، ولاستعمال المثقفين لغات ثانية عند الكتابة كالعربية والفرنسية والإنجليزية، مع عدم وجود نسبة كبيرة من القارئين بهذه اللغات، وعزوف المثقفين عن المطالعة، مما يعني أن الإنتاج قد لا يجد استهلاكا كبيرا، صحيح أن فيهم من يكتب بلغاتهم الأم لكن المستهلكين لا يتجاوزون عدد الأصابع. وليس معنى كل هذا أن المشهد الثقافي الأفريقي يفتقر إلى أقلام مبدعة بقدر ما معناه أن الأقلام المبدعة لم تجد أصواتا تحفزها وتبعثها إلى المضي قدما.
وتحدث عمر لي عن اختلاف التجربة الروائية في السنغال من لغة إلى أخرى، فبينما تنافس تلك الأعمال المكتوبة بالفرنسية الأعمال العظيمة العالمية، وتحوز على الجوائز،فإن فن الرواية العربية السنغالية يمشي ببطء، سواء في جودته وكميته، وقد تطرقت الأقلام السنغالية إلى الفنون السردية بما فيها الرواية والسيرة الذاتية والرواية التاريخية، وفي طليعة هذا القرن ظهرت أعمال كثيرة منها روايات سيرة ذاتية: “من وحي السبعين” (2018)، و “محطات في حياة يتيم” (2018)، وروايات تاريخية: “على آثار القوم” (2020)، و “رحلة إلى الشيخ أحمد بمبا” وروايات صريحة: “جريمة ولكن” (2016)، “والهاربات من الجنة” (2018)، وبعد ذلك لم تصدر رواية سنغالية مكتوبة بالعربية.
وأشار إلى أن الجيل الجديد استطاع الاستفادة من مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية من أجل إيصال صوت المثقف، وذلك بنشر أعمال أدبية تقدم الثقافة والتاريخ السنغاليين إلى العالم العربي، بيد أن استفادة الجيل الجديد من التكنولوجيا لا يزال باهتا.