نجتهد في التعاطي مع الجمال، ونبحث عمَّن ينصفه من خلال شعر أو مقولة من إرث نازك وجبران أو بيت شعر يتيم عثرنا عليه ولم نعثر على اسم قائله.
مجلدات كُتبت عن الفنان الكبير محمد عبده، ولم نزل ننتظر المزيد، فهو تجربة «ملهمة» تستحق أن تُدرَّس لجيل هو أحوج ما يحتاج إلى أن يتعلّم كيف يقف على المسرح قبل أن يغني؛ لكسب أذن مستمع انتقائي لن يرضيه بعد محمد عبده إلا محمد عبده..!
في هذا النص الباذخ كتبت الدكتورة منى المالكي، على كل السطور، وقدّمت لنا لوحة من الجمال فيها محمد عبده الثابت إذا اهتز الفن..!
إليكم شعر ونثر منى المالكي، التي شخّصت من خلاله واقعاً وجسّدت حقيقة..
محمد عبده.. حين ينتصر الزمن للفن، ويشيخ الصوت شابّاً في ذاكرة الأجيال!
في عقده الثامن يقف #محمد_عبده_موسم_الدرعية على المسرح البارحة لا بوصفه فناناً تجاوز الزمن، بل بوصفه زمناً كاملاً يمشي على قدمين! وحين يُطرح السؤال: كيف استطاع أن يغنّي كل هذه العقود، وأن تعشقه أجيال متباعدة فكرياً وثقافياً من الستينيات حتى جيل Z؟ فإن الجواب لا يكمن في الصوت وحده، بل في العقل الذي أدار هذه المسيرة الممتدة على مدى عقود، والالتزام الذي حماه، والذكاء الذي جدّد دمه دون أن يفرّط في هويته.
أستطيع القول إن محمد عبده وبكل جدارة يصح أن نعنون لمشواره الفني بـ«حين يصبح الفنان مؤسسة ثقافية لوحده»!
فمحمد عبده لم يكن يوماً نجم مرحلة عابرة. منذ بداياته في ستينيات القرن الماضي، ظهر بوصفه مشروعاً فنياً واعياً، صوتاً يعرف ماذا يقول، ومتى يصمت، وكيف يختار معاركه الجمالية!
ففي زمن كانت فيه الأغنية السعودية محصورة جغرافياً، خرج بها إلى الفضاء العربي، لا عبر الصدام، بل عبر الاحترام: احترام المقام، والكلمة، والمستمع.
ففي مرحلة السبعينات والثمانينات، حين كانت الأغنية العربية تميل إلى الاستعراض أو التسييس، حافظ محمد عبده على خطه الخاص:
• لا يتخلّى عن الطرب
• لا يساوم على الشعر
• ولا يلهث خلف الموضة، فأصبح صوت الاتزان في زمن التقلب!
تظهر عبقرية «أبو نورة» أيضاً في المراحل المتغيرة فكريّاً وثقافيّاً وفي التطور بلا انقطاع فسرّ الفنان محمد عبده ليس في الثبات، بل في التطور الهادئ. ففي كل مرحلة من مسيرته الفنية كانت استجابة ذكية لزمنها:
• المرحلة الكلاسيكية: صوت طربي، ألحان طويلة، شعر فصيح أو نبطي عميق.
• مرحلة النضج: اقتصاد في الأداء، تركيز على الإحساس، ومساحة أكبر للصمت بين الجُمل.
• مرحلة التجديد: تعاون مع أجيال جديدة من الشعراء والملحنين دون أن يفقد هيبته.
فهو لم يقل يوماً: «هذا جمهوري وانتهى الأمر»، بل قال ضمناً «سأبقى أنا، لكنني سأستمع إليكم».
وهنا بالضبط كسب جيلاً بعد جيل؛ لأنه لم يخاطب الأجيال اللاحقة له بتعالٍ، ولم يقلّدهم بتصنّع، بل قدّم لهم فناً أصيلاً بثوب معاصر، هنا الذكاء الفني الذي تميز به الفنان محمد عبده، فكان يعرف متى يظهر ومتى يختفي؟! فالفنان محمد عبده من أذكى الفنانين في إدارة حضوره:
• يعرف متى يقلّ ظهوره ليزداد الشوق.
• يعرف متى يتكلم، ومتى يترك الأغنية تتكلم.
• لم يُستنزف في الإعلام، ولم يحوّل فنه إلى مادة استهلاكية.
حتى في حفلاته، لا يراهن على الاستعراض، بل على الوقار. وحين غنى بالأمس في برد الدرعية القارص، كما وصفه في آخر الحفلة، وفي طقس قاسٍ بالفعل! يظل رغم ذلك كله نجم الليلة -كما سمعت بذلك من خلال أحاديث الجمهور المبتهج أثناء خروجه- لأن الجمهور لا يأتي ليستمع فقط، بل ليشهد طقساً فنيّاً، أقرب إلى الطرب بوصفه حالة روحية!
فإلى جانب الذكاء الفني حافظ أبو نورة على الالتزام، وهو الصفة التي تجعل من الإنسان عموماً يتربع على عرش إبداعه وعمله وهو «العرش الذي لا يُشترى»، هنا أبو نورة لم يَبْنِ ذلك كله بالضجيج، بل بـ:
• احترام الشعراء
• حفظ حقوق الملحنين
• الحفاظ على صورة الفنان كقيمة، لا كترند!
لم يُعرف عنه الإسفاف، ولا الاستسهال، ولا اللهاث خلف النجاح السريع. ولهذا، حين تغيّرت الأذواق، لم يسقط؛ لأن الأساس كان صلباً.
يبقى سؤال أخير: لماذا ما زال محمد عبده «فنان العرب» طوال هذه العقود ويحظى بكل هذا الاحترام والتقدير؟! أعتقد لأنه غنّى للحب دون ابتذال، وللوطن دون شعارات، وللإنسان دون ادّعاء..
ولأنه أيضاً فهم مبكراً أن الفن ليس سباقاً مع العمر، بل حواراً معه، فمحمد عبده لا ينافس الشباب، ولا يعيش على أمجاده، بل يقف في المنتصف: شاهداً على الماضي، ومشاركاً في الحاضر، ومُلهماً للمستقبل.
وهكذا، لا يبدو غريباً أن تتلاقى الأجيال في صوته، ولا أن يصفق له شاب لم يعش بداياته، ولا أن يظل، حتى اليوم، نجماً في سماء الدرعية.. وفي ذاكرة الأغنية العربية!












