أثارت ألعاب الفيديو الجدل منذ نشأتها بشكل لم يحدث مع الكثير من وسائل الترفيه الأخرى، ورغم التطور الكبير الذي حدث في عالم الألعاب الإلكترونية وتقديم العديد من العناوين الجديدة التي تحاكي أفلام السينما من ناحية القصة أو تقدم تحديات ذهنية عديدة، فإن وصمة الآثار السلبية للألعاب على أدمغة المراهقين والأطفال لم تفارقها.

تعزز الموقف العالمي ضد ألعاب الفيديو في عام 2019 عندما قررت منظمة الصحة العالمية النظر إلى إدمان ألعاب الفيديو على أنه مرض دماغي يستوجب العلاج فضلًا عن وجود عدة دراسات تتهم ألعاب الفيديو بكونها تؤذي الدماغ وتؤثر بالسلب عليه.

وعلى النقيض من هذه الدراسات، ظهر توجه جديد في عالم الطب النفسي يشير إلى كون ألعاب الفيديو ليست مؤذية بهذا الشكل، بل قد تكون مفيدة في بعض الحالات ولها أثر إيجابي على التطور الدماغي للمراهقين وذوي التحديات، ِفأين تقع الحقيقة بين هذين النقيضين؟.

إدمان ألعاب الفيديو

تعرف منظمة الصحة العالمية إدمان ألعاب الفيديو بأنه نمط سلوكي يتعلق بألعاب الفيديو يتميز بفقدان السيطرة على الألعاب والرغبة في تجربتها فضلًا عن وضعها في مقدمة الأولويات اليومية دون النظر إلى بقية جوانب الحياة والاستمرار في تقديم أولوية الألعاب دون النظر إلى العواقب السلبية الناتجة عنها.

ورغم أن منظمة الصحة العالمية خصصت هذا التوصيف ليناسب ألعاب الفيديو، فإنه في الحقيقية يلائم كافة أنواع الإدمان المختلفة، سواءً كان إدمانًا للمواد المخدرة أو حتى للألعاب الورقية، حيث يضع المدمن هذه الأشياء في مقدمة أولوياته دون النظر إلى العواقب السلبية.

كما أن الوصول إلى مثل هذه المرحلة من التعلق بعالم الألعاب يتطلب المرور بمراحل عديدة أوليّة لا تكون الألعاب فيها مسببًا رئيسيًا للإدمان أو حتى مضرة بالشكل الذي تمتلكه أوجه الإدمان الأخرى مثل المواد المخدرة أو الألعاب الورقية.

بالطبع عند الوصول إلى هذه المرحلة، فإن عملية التعافي من إدمان الألعاب تحاكي التعافي من إدمان المواد المخدرة دون وجود أعراض جسدية تظهر على المدمن، أي أن عملية التعافي تتطلب الابتعاد عن الألعاب وإعادة توصيف وتعريف الأولويات في الحياة اليومية، وربما يخسر المتعافي فرصته في العودة إلى عالم الألعاب، ولكن بدون شك فإن التعافي من إدمان ألعاب الفيديو لا يمثل صعوبة أو تحديا مثل التعافي من إدمان الكحوليات أو المواد المخدرة.

ورغم وضوح هذا المرض والتعريف الخاص به، فإنه لا يتطرق إلى الحالات المعتادة من ألعاب الفيديو، ذلك كونه يقفز لتوصيف الحالات الحادة دون النظر إلى اللاعبين الذين يمضون وقتًا أقل أمام ألعابهم ويمتلكون ترتيبًا واضحًا للأولويات بشكل لا يؤثر على حياتهم اليومية.

تحسن وظائف الدماغ

يوفر الاستخدام المعتدل لألعاب الفيديو بعض الآثار الإيجابية على أدمغة الأطفال والمراهقين، إذ يساعدهم في تطوير بعض الوظائف المتقدمة التي يفتقدها غير اللاعبين، وهذا ما وجدته الدراسة التي أجراها أطباء الأطفال بدر الشعراني وجوزيف أورتيغارا وديكانغ يوان في عام 2022 ونشرت في موقع “جاما نيتوورك” (JAMA Network).

تمكنت الدراسة من قياس مستوى الأداء المعرفي ونسب الأكسجين في الدم فضلًا عن استخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي من أجل قياس تأثير الألعاب على 2200 طفل في الأعمار بين 9 و10 أعوام المشاركة في الدراسة، وذلك بالتنسيق بين مجموعة متنوعة من المدارس العامة والخاصة والخيرية في 21 مدينة داخل الولايات المتحدة، ثم مقارنة هذه النتائج بين الأطفال الذين يستمتعون بمدة لعبة أسبوعية لا تقل عن 21 ساعة وبين من لا ينخرطون في ألعاب الفيديو على الإطلاق.

أظهرت نتائج الدراسة أن مجموعة الأطفال اللاعبين يمتلكون مستوى أداء معرفي أعلى فضلًا عن تقديم نتائج أفضل في اختبارات الرنين المغناطيسي الوظيفي مشيرةً إلى أنهم يمتلكون أجزاء نشطة في الدماغ أكثر من الأطفال غير اللاعبين بشكل عام، ومن الجدير بذكره أن هذه الأجزاء النشطة ترتبط بشكل أساسي مع وظائف الذاكرة والانتباه.

تدحض نتائج هذه الدراسة فرضية أن ألعاب الفيديو في المطلق تؤثر سلبًا على اللاعبين وتحديدًا الأطفال في الأعمار بين 9 و10 أعوام الذين خضعوا للدراسة، وهي تتسق مع الدراسات الأخرى التي أسفرت عن ابتكار علاج “إنديفورآر إكس” (Endeavor R.x) الذي يعد لعبة فيديو مصممة خصيصًا لعلاج اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه في الأطفال بين 8 و12 عامًا، ورغم كونها لعبة فيديو في المقام الأول، فإنه لا يمكن الوصول إليها دون وجود وصفة طبية من الطبيب المعالج للطفل.

فضلًا عن ذلك، توجد العديد من الدراسات الأخرى التي تشير إلى فوائد إضافية للألعاب، بدءًا من تحسين لدونة الدماغ وزيادة المادة الرمادية في تكوين الدماغ، وهي الجزء المسؤول عن التحكم في المشاعر والعديد من الوظائف الدماغية الأخرى كونه يمتلك النسبة الكبرى من الخلايا العصبية.

وبفضل زيادة المادة الرمادية، فإن اللاعبين يظهرون مستوى تناسق أعلى بين حركة العين واليدين إلى جانب الانتباه إلى الإشارات البصرية والسمعية ثم التفاعل معها بشكل أفضل، كون العديد من الألعاب تتطلب اهتمامًا بالتفاصيل وملاحظة هذه الأشياء بشكل أفضل.

ميدان - ألعاب الفيديو

تحسن عام في الوظائف المعرفية

يشير أطباء المخ والأعصاب إلى مجموعة من الوظائف الأساسية التي يقوم بها الإنسان خلال حياته اليومية باسم الوظائف المعرفية، وهي تضم العديد من الجوانب المختلفة المتعلقة بالذاكرة والانتباه والوظائف التنفيذية إلى جانب التعامل مع اللغة والكلمات والوعي البصري بالمحيط، وتمتد هذه الوظائف إلى أبعد من ذلك لتصل إلى جوانب أكثر تعقيدًا مثل التخطيط والتنظيم والتنفيذ وحل المشاكل والمرونة المعرفية.

ورغم أن ضعف هذه الوظائف المعرفية لا يعد مرضًا أو مؤثرًا سلبيًا على الأفراد، فإن تحسنها هو مؤثر إيجابي يشير إلى قدرات أعلى وفرصة أكبر في النجاح بشكل عام، ولحسن الحظ، فإن ألعاب الفيديو تؤثر بشكل إيجابي على هذه الوظائف المعرفية.

ولا يعد أثر ألعاب الفيديو على هذه الوظائف أثرًا عامًا ينطبق على جميع أنواع ألعاب الفيديو، بل هو أثر مخصص يختلف بين لعبة وأخرى، وذلك ما أثبتته الدراسة التي أجريت في عام 2020 على الألعاب التجارية وآثارها في الوظائف الدماغية للاعبين، إذ أظهرت الدراسة أن ألعاب المغامرة والأكشن تؤثر بشكل مباشر في وظائف التركيز والانتباه إلى التفاصيل فضلًا عن تنقيح المعلومات والاحتفاظ بالمعلومات الهامة، بينما تعمل ألعاب أخرى مثل ألعاب الألغاز على تحسين الحس المكاني والقدرة على مراعاة الصورة الأكبر.

لماذا تملك ألعاب الفيديو هذه الآثار الإيجابية؟

هناك العديد من الأسباب التي تجعل ألعاب الفيديو تقدم هذه الآثار الإيجابية على أدمغة اللاعبين، ولكن يمكن اختصارها جميعًا في خوض التجارب الجديدة التي يصعب خوضها في الحياة اليومية، فضلًا عن عملية التعزيز الإيجابية عند الوصول إلى النتيجة المرجوة.

تقدم ألعاب الفيديو فرصة ذهبية لكل الأشخاص بشكل متساو لعيش تجارب من الصعب عيشها بشكل يومي، كأن تكون جنديًا في حرب مستعرة ضد جيش من الأشرار في ألعاب المغامرة والأكشن، أو أن تكون قائدًا رومانيًا مسؤولًا عن ترقية دولتك ومدينتك بشكل مستمر في الألعاب الإستراتيجية، وربما تفضل ألعاب الألغاز التي تركز على المهارات الفكرية وتحسن من مستوى الذكاء العام للأفراد.

أضرار سلبية وسط الإيجابيات

رغم الفوائد الإيجابية العديدة التي تقدمها ألعاب الفيديو للاعبين، فإن هنالك بعض الآثار السلبية المختلطة وسط هذه الفوائد، وهي جميعًا تدور حول مخاطر الإدمان نتيجة الاستخدام المرضي للألعاب وتتوسع لتتعدى الإدمان في حد ذاته والأثر السلبي على الحياة اليومية.

فبينما يغذي الاستهلاك الصحي للألعاب المهارات الحسية، فإن الاستهلاك المبالغ فيه الذي يصل إلى درجة الإدمان يتسبب في انفصال اللاعب عن الحياة اليومية والعيش في عالم افتراضي طول الوقت، فضلًا عن كون بعض الألعاب تعزز من الرغبات السلبية في تطبيق العنف على الحياة اليومية ومحاولة البحث عن طرق مختصرة لحل التحديات اليومية.

تعزز الألعاب من الأنشطة الإيجابية داخل عالمها عبر منح مكافآت مختلفة داخلها، ورغم أن هذا الأمر يعد جيدًا في الحالات المعتدلة، فإن بعض المستخدمين يتحولون إلى مدمنين على شعور المكافأة الإيجابية بشكل مستمر، وهذا يحثهم للبحث عنها في كافة جوانب الحياة اليومية حتى ولو كانت عبر طرق ملتوية، وهو الأمر ذاته الذي يدفعهم لإدمان ألعاب الفيديو ومحاولة الوصول إلى هذا الشعور بالسعادة نتيجة المكافآت داخل هذا العالم.

محاولة النظر إلى عالم ألعاب الفيديو بعين الشمولية تتحول إلى محاولة مجحفة في حق العديد من الألعاب والتجارب المتاحة عبره، إذ لا يمكن القول بأن جميع الألعاب وجميع أنواع الاستهلاك المباشر لها سيئ ومضر بالدماغ، كما لا يمكن القول بأنه جميعًا جيد ويقدم فوائد إيجابية مستمرة.

ويظل المفتاح الرئيسي لتحقيق الفائدة القصوى من هذا العالم هو الاعتدال والمراقبة المستمرة من أجل التدخل قبل أن يتحول إلى إدمان ضار.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version