لا تزال معركة الدعاية، منذ انبعاث الخلق، تشهد تطورات وتحولات على جميع المستويات، ابتداء من الفكرة، ووصولا إلى طرق الترويج لها وزرعها في عقول الناس، ولا يزال الإنسان في سباق بهذه المعركة الأزلية المتجذرة في التاريخ.

وقد اكتسحت الدعاية جميع جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتوطدت بمعالمها المعرفية في عقولنا مع بعثة النبي محمد، ولم يتوقف هذا المفهوم الدعوي على مر العصور، بل تطور وتحول على مستوى القدرة على العمل الدعوي ووسائل التبادل المعلوماتي، وصرنا اليوم أمام مشهد لمجموعة من الدكاكين الدعائية، والجميع يسوق لبضاعته، ويخلق لها الوسائل لتصل إلى أكبر عدد ممكن من الناس، والكل في تسابق وتلاحق للفوز بما تسمى “الشرعية”.

تغيرت الوسائل ولم تتوقف الدعاية

في عام 1952 الذي كان عاما انتخابيا بالغ الأهمية في الولايات المتحدة الأميركية، لعبت أجهزة التلفاز وأجهزة الاتصال اللاسلكي دورا مهما في توليد الأخبار الحديثة والعاجلة للجمهور، إذ أصبح باستطاعة أي مراسل أن يحمل كاميرا يصل وزنها إلى 10 أرطال، مرتديا حقيبة ظهر تزن 50 رطلا ترسل الصوت والفيديو إلى هوائي محطة قريب وتمرر الإشارات إلى شبكة وطنية من أبراج الموجات والكابلات المحورية التي تربط عشرات المحطات في ذلك الوقت.

وكانت القدرة على متابعة موضوع ما، وأنت جالس في بيتك فكرة مريحة لأي شخص، وقد أثر هذا العرض المتكرر للأخبار وبرامج المرشحين في نسق الانتخابات الأميركية والتصويت في تلك الحقبة، فقد كانت أول مناظرة للانتخابات العامة في سبتمبر/أيلول 1960، التي جمعت مرشح الحزب الديمقراطي الأميركي جون إف كينيدي ونائب الرئيس والمرشح الجمهوري ريتشارد نيكسون في شيكاغو في أستوديوهات “دبليو بي بي إم تي في”.

ورغم التفوق والخبرة اللذين عرف بهما نيكسون في السياسات الخارجية والمناظرات الإذاعية، فإن عدم معرفته بالشكل الجديد للمناظرات المتلفزة جعل عدة عوامل منها رفضه استخدام مساحيق التجميل والتي جعلت شكله يبدو شاحبا ونحيفا وغير مستساغ للجمهور تساهم في خسارته في المناظرة، وصار التحدث عن السياسة العالمية قبل عام 1952 ليس مثل الحديث عنها بعده.

ومع حلول سنة 2024، التي تمثل سنة انتخابية مهمة لأكثر من 60 دولة تشمل ما يقارب 49% من سكان العالم، يلعب التطور التكنولوجي سريع النسق دوره المهم في العمليات الانتخابية، ويأخذ منحى آخر من حيث التأثير على شفافية الحملات الانتخابية العالمية، فنحن الآن لا نتحدث عن تسهيل الحملات الانتخابية من خلال توفير أنظمة التصويت الإلكتروني التي تجعل أي مواطن يسجل في الانتخابات باستخدام هاتفه الذكي، ويدلي بصوته وهو في بيته فحسب، ولكننا صرنا نتحدث عن المؤسسات القائمة على إدارة هذه البرامج، وعن مدى أمان التكنولوجيا التي يمكن أن يثق بها هؤلاء للإدلاء بالأصوات الانتخابية.

الذكاء الاصطناعي في الانتخابات سلاح ذو حدين

لا يمكن بأي شكل من الأشكال إنكار دور التطور التكنولوجي وبالتحديد الذكاء الاصطناعي في تسهيل العمليات الانتخابية وتحسين كفاءتها، والزيادة من تفاعل الناخبين، وإشراكهم بشكل فردي في العملية الانتخابية من خلال منتديات النقاش عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

ووفقا لدليل اليونسكو للممارسين الانتخابيين “الانتخابات في العصر الرقمي”، فإن الذكاء الاصطناعي يساعد في جعل الانتخابات أكثر دقة من خلال التواصل مع الناخبين، والتفاعل معهم بشكل مباشر أكثر من خلال التواصل الشخصي المخصص، وفقا للتفضيلات والسلوكيات الفردية.

كما يمكن للدردشات الآلية المدعومة بالذكاء الاصطناعي أن تقدم معلومات في الوقت الحقيقي حول مواقع الاقتراع، وبرامج المرشحين، وإجراءات التصويت، وهذا ما يجعل العملية الانتخابية أكثر شفافية.

في الشق الآخر، تثير طبيعة الذكاء الاصطناعي المزدوجة المخاوف بشأن الاستخدامات المحتملة لهذا الأخير، حيث يمكن لأي شخص في هذا العصر أن يقوم بإنشاء مقاطع فيديو، وتسجيلات صوتية، لأشخاص عاديين، أو لمشاهير تحتوي على تصرفات لم يقم بها هؤلاء الأشخاص من قبل، وإذا سلطنا الضوء على الذكاء الاصطناعي التوليدي مثل شات جي بي تي، فإن إمكانية استخدامه في الهجمات السيبرانية، وإنتاج التزييف العميق، ونشر المعلومات المضللة، يهدد نزاهة العمليات الانتخابية، ويقوض الثقة العامة.

لقد أصبحت قضية التلاعب بالناخبين، وتزييف أصواتهم وصورهم، محط النقاش الأساسي لدول كثيرة من دول العالم التي تجهز للانتخابات، إذ أشار الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في خطابه أمام مجلس الأمن أن الذكاء الاصطناعي يشكل مخاطر كثيرة إذا تم استخدامه بشكل خبيث.

وقال: “قد تكون بداية الذكاء الاصطناعي التوليدي لحظة حاسمة في مجال المعلومات المضللة وخطاب الكراهية، مما يقوض الحقيقة والحقائق والسلامة، ويضيف بعدا جديدا لتلاعب السلوك البشري ويساهم في الاستقطاب وعدم الاستقرار على نطاق واسع”.

وحسب تقرير نشرته الأمم المتحدة في بداية يونيو/حزيران الماضي، فإن عملية نشر الذكاء الاصطناعي في الانتخابات تطرح كثيرا من الأسئلة الأخلاقية، مثل ضمان خلو أنظمة الذكاء الاصطناعي من التحيز، وعدم التأثير بشكل غير عادل على نتائج الانتخابات، وتحديد الأطراف المسؤولة عن الإشراف على استخدام الذكاء الاصطناعي في العمليات الانتخابية لضمان الشفافية والمساءلة.

في السياق ذاته، انتشرت مقاطع صوتية تم إنشاؤها بالتزييف العميق، توضح بشكل لا يقبل الشك مدى خطورة الاستخدام الخبيث لبرامج الذكاء الاصطناعي، فقد تم في السنة الماضية نشر مقطع صوتي مزيف على فيسبوك للسياسي السلوفاكي ميشيل سيميتشكا، الذي يقود الحزب الليبرالي التقدمي السلوفاكي قبل يومين فقط من انتخابات سلوفاكيا، تضمن نقاشا له وهو يناقش الصحفية مونيكا تودوفا في صحيفة “دينيك إن” حول كيفية تزوير الانتخابات عن طريق شراء أصوات من أقلية الروما المهمشة في البلاد.

وقالت إدارة التحقق من الحقائق بوكالة الأنباء الفرنسية إن الصوت أظهر علامات التلاعب باستخدام الذكاء الاصطناعي، ولأن المنشور كان صوتيا، فقد استغل ثغرة في سياسة ميتا الإعلامية التي تم التلاعب بها، حيث تم تحرير شخص ليقول كلمات لم يقلها سيميتشكا.

ونذكر أيضا المقطع الصوتي الذي طال الرئيس الأميركي جو بايدن، والذي نشر في ولاية نيوهامبشير، ووصل لأكثر من 20 ألف شخص، يدعو فيه الشعب الأميركي إلى عدم التصويت في الانتخابات الأولية. كما تم تزييف صور وفيديوهات لمشاهير، كصورة المغنية الشهيرة تايلور سويفت، التي نشرت على منصة إكس، وإنستغرام وفيسبوك، وشوهدت أكثر من 40 مليون مرة قبل حذفها.

اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة بقيادة الولايات المتحدة وبدعم أكثر من 120 دولة عضوا، قرارا يعزز أنظمة الذكاء الاصطناعي "الآمنة والآمنة الجديرة بالثقة"

مناهج واعدة لتقييد استخدام الذكاء الاصطناعي.. حلول حقيقية أم بيع للأوهام؟

بالتزامن مع اقتراب توجه نحو 4 مليار شخص نحو صناديق الاقتراع لأكثر من 60 دولة في العالم، ومع المخاوف من انتشار التضليل والتلاعب والتزييف، تجندت عدة دول بمؤسساتها وحكوماتها للعمل على تقييد استخدام الذكاء الاصطناعي في التلاعب بالناس وتهديد المستقبل الديمقراطي.

وأطلق الأمين العام للأمم المتحدة هيئة استشارية جديدة حول الذكاء الاصطناعي، تضم خبراء من الحكومة، والأعمال، ومجتمع التكنولوجيا، والمجتمع المدني، والأوساط الأكاديمية، لدعم المجتمع الدولي في تنظيم الذكاء الاصطناعي.

ووضع منهجا شاملا يركز على وضع معايير عالمية وإرشادات أخلاقية، للتخفيف من المخاطر العالمية على المدى الطويل، وتطوير الأطر التنظيمية، وزيادة الوعي العام.

وقد حذر مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان فولكر تورك في وقت سابق من خطر حملات الدعاية والتضليل القوية في تعطيل الانتخابات وخداع الناس وانتشار الكراهية، ودعا إلى سياسات وممارسات الذكاء الاصطناعي الراسخة في حقوق الإنسان.

وفي مارس/آذار 2024، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة بقيادة الولايات المتحدة وبدعم أكثر من 120 دولة عضوا، قرارا يعزز أنظمة الذكاء الاصطناعي “الآمنة والآمنة الجديرة بالثقة” التي تتماشى مع حقوق الإنسان وتساهم في التنمية المستدامة، ويدعو هذا القرار جميع أصحاب المصلحة إلى الامتناع عن استخدام الذكاء الاصطناعي بطرق تنتهك حقوق الإنسان، مشددا على ضرورة سد الفجوة الرقمية.

وقد تم توقيع ميثاق لمحاربة استخدام حيل الذكاء الاصطناعي في الانتخابات، إذ تم الإعلان عنه في مؤتمر ميونخ للأمن لهذا العام، التزمت فيه 20 شركة تكنولوجيا تشمل “أدوبي” و”غوغل” و”مايكروسوفت” و”أوبن إيه آي” و”سناب” و”ميتا” بالعمل على تطوير أحدث التقنيات لكشف المحتوى المزيف والمضلل والخادع للناخبين، وحماية الأشخاص من تزييف أصواتهم، والتلاعب بهم.

وبالنظر إلى كل هذه الجهود والاستعدادات والتحذيرات من الاستخدامات الخبيثة للتكنولوجيا التي تسيء لحقوق الإنسان، وتزامنا مع الأحداث التي تجري على مستوى العالم، كإزالة المحتويات الداعمة للقضية الفلسطينية، وحظر الآراء المناهضة لحرب الإبادة على غزة على مواقع التواصل الاجتماعي، مما جعل رواد هذه الأخيرة ينتقدون ويتذمرون من الكيل بمكيالين، إضافة إلى حدث إيقاف مؤسس “تلغرام” بافيل دوروف الذي أثار جدلا واسعا حول غموض أسباب هذا الإيقاف، والذي يراه محللون أنه على خلفية قضية سياسية، وأن بعض القنوات والمجموعات على تلغرام تتطرق إلى مواضيع حساسة مثل الحرب في أوكرانيا وقطاع غزة.

هل تبدو هذه الحلول ومع اعتبار ما يحدث في العالم أمرا واقعيا، أم أنه بيع للأوهام وذر للرماد في العيون؟

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version