كل شيء في هذا العالم مدهش، لكنك قد لا تجد أكثر إدهاشا من عالم الحيوان، حيث مع بعض البحث والتدقيق يمكنك أن تلاحظ وجود كائنات، تبدو للوهلة الأولى عادية جدا، لكن تكتشف أنها تملك قدرات خارقة، تشبه تلك التي نشاهدها في أفلام مارفل، هل تصدق الأمر لو قلنا لك مثلا إن هناك كائنا ما، يقطع ذراعه للمفترسات طوعا، ويصنع السيراميك الهش، ويرى دون عيون، ويتعلم بلا دماغ؟

تمتلك شوكيات الجلد، مثل نجم البحر الهش (وهو كائن قريب لنجم البحر وقنديل البحر)، قدرات مذهلة على تكييف أنسجتها الجسدية استجابة للضغوط والظروف المتغيرة بسرعة.

يمتلك نجم البحر الهش 5 من الأذرع السوطية الرقيقة والمرنة بطول يصل إلى 60 سنتيمترا في بعض الأحيان، والتي تساعده في الزحف على قاع البحر لإيجاد الطعام، ويمكن لهذا الكائن أن يقطع ذراعه طواعية للهروب من الحيوانات المفترسة، وغالبًا ما يشتت الذراع المقطوع انتباه المفترس، مما يمنح نجم البحر الهش الوقت للتراجع، بعد ذلك، يمكن لهذا الكائن تجديد أذرعه التي فقدها.

Brittle Star

قدرات دقيقة

وتتضمن عملية فصل الذراع تنشيط مسارات خلوية محددة تسمح للأنسجة بالانقطاع بشكل دقيق عند نقاط محددة مسبقًا، مما يقلل من الضرر الذي يلحق بالكائن الحي.

وتبدأ عملية إعادة النمو بتكوين غطاء التئام الجروح، يليه تكاثر الخلايا وتمايزها لإعادة بناء الذراع المفقودة، وتعمل الخلايا المتخصصة في القرص المركزي وجذع الذراع المتبقي على دفع عملية التجديد.

وتتكون أذرع نجم البحر الهش من نظام معقد من العظيمات (صفائح كربونات الكالسيوم) متصلة بأربطة وعضلات، مما يمنحها مرونة ملحوظة، ويسمح لها هذا الهيكل بالتحرك بخفة، مما يتيح لها الحركة والتغذية والهروب. وعلى الرغم من مظهرها الرقيق، فإن أنسجتها قوية ومقاومة للتلف، وتوازن المرونة مع المتانة.

وفي هذا السياق، يتكون الهيكل العظمي لنجم البحر الهش من الكالسيت، وهو خفيف الوزن، ولكنه قوي، مما يوفر الحماية والدعم البنيوي، كما أن هيكله العظمي مسامي للغاية، ويجمع بين الصلابة وانخفاض الوزن.

يسمح ما سبق لنجوم البحر الهشة بالبقاء على قيد الحياة في بيئات بحرية مختلفة وظروف شديدة في درجات الحرارة والملوحة والضغط، وهي بذلك تجسد القدرة المذهلة للحياة البحرية على التكيف من خلال قدرات أنسجتها المتقدمة.

البشر يحاولون تعلم الدرس

وفي تلك النقطة تحديدا يتدخل باحثون من جامعة كارولينا الشمالية في الولايات المتحدة لدراسة هذه الخصائص الفريدة، والتعلم منها، وربما يوما ما يمتلك البشر أداة لتجديد أنسجتهم، يستلهمونها من نجم البحر الهش.

وبحسب الدراسة، التي نشرها الفريق في دورية “بي إم سي جينوميكس”، فإن بعض أنواع نجم البحر الهش مناسبة بشكل خاص لتزويد الباحثين بجينات يمكن عزلها ودراستها، تحمل التعليمات الجزيئية المحددة التي تحدد تعديلات الأنسجة الناشئة، مما يساعد الباحثين على ابتكار مواد حيوية “ذكية” جديدة لتطبيقات الصحة البشرية.

يعتمد الباحثون استخدام المجهر الإلكتروني النافذ المتقدم وتقنيات تسلسل الحمض النووي الريبي، وطرق علوم المعلومات الحيوية الأخرى لتحديد 16 جينًا محتملًا لتحقيق فهم دقيق لكيفية تحويل شوكيات الجلد بسرعة وبشكل جذري لأنسجتها الكولاجينية، وتحديدا التعليمات الدقيقة التي يرسلها الحمض النووي إلى الخلية: ماذا يقول لها؟ ومتى يقوله؟ وبأي كميات ترسل تلك الإشارات؟

فكر في الحمض النووي باعتباره قائد السفينة، الذي يصدر الأوامر للتنقل والعمل بسلاسة في البحر، الحمض النووي الريبي في هذه الحالة هو الطاقم، الذي يتلقى هذه الأوامر بجد وينفذها لضمان إنجاز مهمة السفينة، يركز الباحثون في هذه الدراسة على عمل الحمض النووي الريبي.

يصنع السيراميك الهش

ولا يقف الأمر عند الطب التجديدي، بل يحاول العلماء الاستفادة من هذا الكائن العجيب في نطاقات متعددة، فمثلا في 2017 توصل فريق من العلماء إلى الكيفية التي يمكن لنجم هش من خلالها أن يصنع مادة مثل الزجاج المقسّى تحت الماء، نُشرت النتائج في مجلة “ساينس” المرموقة، وقد تفتح طرقًا جديدة مستوحاة من البيولوجيا لتقوية السيراميك الهش.

يتم إنتاج الزجاج المقسى عن طريق ممارسة ضغط ضاغط على الزجاج مما يضغطه ويتركه أكثر إحكاما مما هو عليه في حالته الطبيعية، في أثناء ذلك هناك تسخين سريع ثم تبريد سريع للمادة.

لكن نجم البحر الهش لا يحتاج لكل ذلك، حيث يملك إستراتيجية لجعل المواد الهشة أكثر متانة في ظل الظروف الطبيعية، إنها “هندسة البلورات” كما يسميها العلماء والتي تضمن التقسية دون تسخين.

ويمكن للعلماء والمهندسين الآن استخدام هذه الإستراتيجية البيولوجية المكتشفة في تقوية المواد الخزفية الاصطناعية، الأمر الذي يفيد بالفعل في تطبيقات مختلفة تتراوح من العدسات البصرية إلى الشواحن التوربينية للسيارات وحتى غرسات المواد الحيوية.

بدون عيون لكنه يرى

ويستمر البحث خلف هذا الكائن العجيب بلا توقف، وفي كل مرة يندهش العلماء مما يقف قبالة أعينهم، ففي عام 2018 اكتشف العلماء أول دليل على أن نجوم البحر الهشة التي تعيش في الشعاب المرجانية تستخدم آلافا من الأجهزة التي تستشعر الضوء في جلدها، للتنقل عبر بيئاتها المعقدة.

وللتوصل إلى تلك النتائج، قام فريق دولي، بقيادة باحثين في متحف التاريخ الطبيعي بجامعة أكسفورد، بالتحقيق في نجم البحر الهش من النوع “أوفيوكوما ونديتي” والذي يعيش في الشعاب المرجانية الزاهية والملونة في البحر الكاريبي.

جذب هذا النجم الهش الانتباه العلمي لأول مرة منذ أكثر من 30 عامًا بفضل سلوكياته المستجيبة للضوء بشكل فريد، مثل التغيرات الدرامية في إدراك اللون بين النهار والليل، والنفور الشديد من الضوء، والبحث السريع عن المأوى عند التعرض للهجوم، كل ذلك بدون أي عيون.

جاء حل هذا اللغز في اكتشاف الباحثين لآلاف الخلايا الحساسة للضوء في أذرع نجوم البحر الهشة، هذه الخلايا مدمجة في الجلد في جميع أنحاء الجسم، مما يعني أن جسد هذا الكائن بالكامل، هو عين واحدة كبيرة!.

يتذكر ويتعلم بلا دماغ

أما في عام 2023 فقد توصل فريق بحثي بقيادة علماء من جامعة ديوك الأميركية إلى أن نجم البحر الهش يمكنه التعلم من خلال خبراته رغم أنه لا يمتلك دماغا.

وبحسب الدراسة التي نشرها هذا الفريق في دورية “بيهيفيورال إيكولوجي آند سوسيوبيولوجي”، فإن الجهاز العصبي لهذا الكائن يتكون من حلقة عصبية رئيسية تدور حول القرص المركزي لنجم البحر الهش، وعصب واحد يمتد في كل ذراع حتى نهاية طرفه، وتمر الأعصاب في كل طرف عبر قناة مكونة من حلقات شوكية.

وليس لدى معظم أفراد هذه العائلة عيون أو أعضاء حسية متخصصة أخرى، ولكن النهايات العصبية الحساسة في أذرعها قادرة على تحقيق حاسة اللمس واستشعار المواد الكيميائية في الماء ووجود الضوء أو عدمه، ولكن رغم ذلك، فإنه لاتزال لدى هذا الكائن إمكانية للتعلم من خلال خبراته السابقة، وبشكل خاص في إيجاد الطعام.

ويرى الباحثون أن ذلك يحدث لأنه يمكن لكل من الحبال العصبية التي تمتد في أذرعه أن تعمل بشكل مستقل، بحيث يبدو الأمر كما لو أن المتحكم في قراراته هو لجنة “الأعصاب” بدلا من الرئيس “المخ”.

وبحسب الدراسة، فإن هذا النمط التشريحي يساعد نجم البحر على التعلم من خلال الارتباط، وهو أسلوب للتعلم يحدث عندما يصبح عنصران -غيرُ مرتبطين بطبيعة الحال- مرتبطين في أدمغتنا.

ومثالا للتوضيح: إذا وضع شخص ما يده على طبق ساخن وشعر بالألم، فقد يتعلم ربط الأطباق الساخنة بالألم، وبالتالي يتعلم ألا يضع يديه عليها مرة أخرى، أو إذا تناول شخص ما طعاما معينا ثم أصيب بالصداع بعد ذلك بوقت قصير، فقد يتعلم ربط هذا الطعام بالصداع ولا يرغب في تناوله مرة أخرى، حتى لو لم يكن الطعام يسبب الصداع.

التعلم بالترابط سلوك يمارسه البشر والحيوانات كذلك، ومن خلال ربط العناصر معا وإنشاء شبكة من الروابط المختلفة، تُبنى الذكريات ويُعمق فهمنا للعالم، لكن الغريب في الأمر أن كانت المرة الأولى التي يرصد فيها ذلك في كائنات من هذه الفئة ذات الجهاز العصبي الذي بهذه البساطة.

وضع الباحثون أفرادا من هذا الكائن في أحواض بلاستيكية وتعاملوا معه مثل كلب بافلوف، حيث يقدمون له الطعام مع مؤثر بصري، بعدها تعلم أن يربط بين المؤثر البصري والطعام، وحينما أغلقت التجربة لمدة 13 يوما ثم عاد العلماء بها، وجدوا أن نجم البحر الهش لايزال يتذكر الأمر.

كل هذا، بحلقة عصبية صغيرة، و5 خيوط عصبية، فقط. ونحن نمتلك 86 مليار خلية عصبية في تعقد بديع، في أدمغتنا البشرية.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version