مقدمة للترجمة

لا يوجد حيوان يتمتع بمرونة هائلة تشبه إيقاف الزمن مثلما يفعل “التارديغرادا”، وهو مخلوق يتمتع بقدرة هائلة على الصمود لدرجة أنه يكاد يوقف الزمن تقريبًا، أما السلاحف حمراء الأذنين التي تعيش في المياه العذبة، فتستطيع البقاء على قيد الحياة لفترة تصل إلى ستة أسابيع بدون أكسجين تحت الجليد، كما يمكنها الاستمرار ليومين بدون أكسجين في درجة حرارة الغرفة، وبالنسبة لثعابين البايثون، فإن القوة الخاصة التي تتمتع بها هي التجدد السريع، إذ تستطيع هذه الثعابين أن تجوع لأشهر، قبل أن تلتهم حيوانًا كاملا دفعة واحدة. ومن أجل الحفاظ على طاقتها، تسمح هذه الثعابين لأعضائها الداخلية بالتقلص والتجدد بين الوجبات. في هذه المادة المترجمة من نيوساينتست نتعرف على مجموعة من أعاجيب الخلق في عالم الحيوان. قد تبدو فكرة امتلاك البشر لمثل هذه القدرات المدهشة غير واقعية للوهلة الأولى، ومع ذلك فهي ممكنة مع اكتشاف أن هذه القدرات مدعومة بجينات وعمليات بيولوجية موجودة بالفعل لدى البشر.

نص الترجمة

تقضي السلحفاة الغربية المزركشة أشهرًا في حالة سبات تحت طبقة من الجليد، محبوسةً في بيئة خالية من الهواء تقريبًا. وما إن يحل الربيع ويذوب الجليد، حتى تبدأ هذه السلحفاة في نفض أثر السبات عنها تدريجيًا، فتتحرك مخالبها، ويستعيد دماغها نشاطه، وتدفع برأسها الثلجَ الذائب لتتنفس الهواء لأول مرة بعد أشهر من السبات. والشيء الذي يجعل هذه السلحفاة استثنائية هو قدرتها على البقاء على قيد الحياة لفترة طويلة رغم نقص الأكسجين، وهو الأمر الذي قد يقتل إنسانًا في غضون دقائق.

حققت هذه السلحفاة رقمًا قياسيًا بين الحيوانات ذات الأرجل الأربع في البقاء على قيد الحياة بدون أكسجين لمدة تزيد عن 100 يوم، ومع ذلك فهي ليست المخلوق الوحيد الذي يتمتع بمواهب مذهلة كهذه في عالم الحيوان، إذ توجد مجموعة من القدرات الرائعة في مملكة الحيوان؛ تبدو خيالية.

فمن بين هذه القدرات، تجديد الأعضاء الداخلية بالكامل تقريبًا، والقدرة على تجنب الشيخوخة والسرطان، والنوم بلا حراك لشهور دون أن تتضرر العظام أو العضلات، بجانب إبطاء الوقت البيولوجي أو حتى الدخول في حالة توقف كامل عن النشاط البيولوجي، مما يسمح لهذه الكائنات بالبقاء على قيد الحياة في ظروف شديدة القسوة. بمعنى أن حالة كهذه يمكن أن تحمي الكائنات من مجموعة واسعة من التحديات أو الظروف القاسية، مثل التجمد أو التعرض لأشعة غاما.

تبدو فكرة امتلاك البشر لمثل هذه القدرات غير واقعية للوهلة الأولى، ومع ذلك تبدو الفكرة ممكنة مع اكتشاف أن هذه القدرات مدعومة بجينات وعمليات بيولوجية موجودة بالفعل لدى البشر. صحيح أن التطبيقات المحتملة لمثل هذه القدرات ما زالت أهدافًا بعيدة المنال، مثل وضع البشر في حالة سبات أثناء سفرهم إلى الفضاء، إلا أن ثمة تطبيقات أخرى تبدو أكثر واقعية، مثل الحفاظ على الأعضاء المزروعة دون الحاجة إلى تبريد، وتطوير أساليب جديدة لمكافحة السرطان والشيخوخة. أما الفكرة الأقرب إلى الواقع فهي مشروع بحثي أطلقته الولايات المتحدة للاستفادة من قدرات الحيوانات في مساعدة الجنود المصابين في ساحة المعركة.

وتعليقًا على ذلك، تقول روشيل بوفنشتاين، من شركة كاليكو، وهي شركة تكنولوجيا حيوية في كاليفورنيا مدعومة من شركة غوغل وتهدف إلى مكافحة الشيخوخة: “سيكون هذا أمرًا مذهلاً للغاية”. لطالما أثارت القدرات المذهلة للحيوانات دهشة العلماء، وكان يصعب في السابق فهمُ الأسس الجينية التي تدعم هذه التكيفات. ولكنْ تغيَّر هذا مع ظهور ما يسمى مجال “الأوميكس”، وهو مجموعة من التقنيات العلمية التي تهدف إلى دراسة الجزيئات البيولوجية في الكائنات الحية، وتكشفُ التعليمات الموجودة في جميع جينات الحيوان (الجينوم)، وكذلك النشاط المتغير لهذه الجينات، وغيرها من الجزيئات الحيوية الأخرى استجابةً للتغيرات البيئية.

يُجري العلماء حاليًا تحليلا لتسلسل الحمض النووي لكائنات حية تتمتع بخصائص مدهشة لفهم تركيبها الجيني الكامل، ليساعد في اكتشاف الأسس الجينية والبيولوجية التي تدعم القدرات والخصائص المدهشة لهذه الحيوانات. ومن خلال دراسة هذه الجينومات، يمكن للعلماء فتح أبواب جديدة لفهم العمليات البيولوجية التي تمنح هذه الحيوانات قدراتها الفريدة، وتحديد الجينات والعمليات الخلوية المرتبطة بهذه القدرات لدراستها على نحوٍ أعمق.

من جانبها، تقول سارة ميلتون، من جامعة فلوريدا أتلانتيك بالولايات المتحدة: “لقد أصبح بوسعنا رؤية وفهم جوانب بيولوجية لم يكن بالإمكان ملاحظتها أو دراستها من قبل”.

إن اهتمام ميلتون مُنصبّ على دراسة السلاحف، وبالأخص أدمغتها. ورغم أن السلاحف حمراء الأذنين التي تعيش في المياه العذبة ليست بمستوى السلاحف المزركشة في التحمل، فإنها تستطيع البقاء على قيد الحياة لفترة تصل إلى ستة أسابيع بدون أكسجين تحت الجليد، كما يمكنها الاستمرار ليومين بدون أكسجين في درجة حرارة الغرفة. هذه القدرة الاستثنائية على حماية الدماغ تُعتبر إنجازًا مذهلا، إذ عادةً ما تستهلك الأدمغة الكثير من الطاقة للحفاظ على التوازن السليم للشحنات الكهربائية داخل الخلايا وخارجها. فمثلًا، عندما يُقطع إمداد الأكسجين عن الإنسان كما يحدث في السكتة الدماغية، يحدث انهيار في الطاقة، مما يؤدي إلى تعطيل مضخات الشحنات الكهربائية عبر أغشية الخلايا العصبية. هذا الخلل الكهربائي يؤدي إلى إطلاق كميات سامة من الإشارات الكيميائية (المعروفة بالنواقل العصبية*) إلى الخلايا المجاورة، مما يفجِّر مزيدًا من الفوضى الكهربائية وموت الخلايا.

لكن إحدى المفارقات العجيبة، أن إعادة إمداد الخلايا بالأكسجين بعد انقطاعه يمكن أن تؤدي إلى نتائج أسوأ بكثير، فعندما تعود الخلايا التي استُنزفت طاقتها بسبب نقص الأكسجين إلى توليد الطاقة من جديد، فإنها تُنتج مُركبات ضارة تُعرف بمركبات الأكسجين التفاعلية، قد تسبب ضررًا للخلايا وتقتل المزيد منها.

وللبقاء على قيد الحياة بعد عودة الأكسجين، تتبنى السلاحف حمراء الأذنين عدة إستراتيجيات، إحداها تعديل عملية الأيض لديها بحيث تُنتج كميات أقل من هذه المركبات الضارة، كما تصنع بروتيناتٍ خاصة تحمي الخلايا من التلف. وما قد يثير الانتباه أن البشر يتمتعون بدفاعات مشابهة، لكننا نستخدمها استخدامًا مختلفًا. فعلى سبيل المثال، نزيد من إنتاج هذه البروتينات بعد حدوث الضرر، في حين تُنتجها السلاحف باستمرار. وحسبما ترى ميلتون، فإن هذه التشابهات بين البشر والسلاحف تبعث على التفاؤل، لأنها تشير إلى إمكانية تعديل العمليات البيولوجية لدى البشر لجعلها أشبه بتلك الموجودة لدى السلاحف. وتمتد التطبيقات الطبية المحتملة لهذه الفكرة لتشمل أي حالة يكون فيها نقص الأكسجين مشكلة، مثل السكتة الدماغية والنوبات القلبية.

جرذان لا تشيخ أبدًا

تتمتع حيوانات أخرى بقدرات خارقة تُمكّنها من تحمل التجمد والذوبان، مثل الضفدع الخشبي أو الضفدع الحرجي، الذي ينجو من الشتاء القارس في كندا عن طريق تجميد ما يصل إلى ثلثي جسمه، لدرجة أن هذا الجزء المُجمد  يُصدر صوتًا إذا ما نُقِرَ عليه برفق. وعن ذلك، يقول كين ستوري، من جامعة كارلتون في كندا: “تستمر التفاعلات البيوكيميائية عند درجة حرارة -5 مئوية، ولكن بمعدل أبطأ بنحو 10 آلاف مرة من المعدل الطبيعي”. والسر وراء بقاء هذا الضفدع على قيد الحياة، هو إنتاج مادة كيميائية تحمي خلاياه من الجفاف أثناء عملية التجميد، فعندما يتجمد الماء في المناطق المحيطة بالخلايا، تمنع هذه المادة الكيميائية سَحب الماء من داخل الخلايا، مما يحميها من الانكماش أو التلف نتيجة التجمد، وبالتالي، تُقدِّم هذه القدرة فكرة عن حل ممكن لمشكلة طبية ملحّة.

في الوقت الحالي، يُعد الحفاظ على الأعضاء البشرية لعمليات زراعة الأعضاء أمرًا صعبًا، لأن طرق التجميد التقليدية تؤدي إلى تدمير الأعضاء. ونتيجة لذلك، تتضرر أكثر من 60% من القلوب المُتبرع بها كل عام. وحاليا، يحاول فريق من جامعة هارفارد الاستفادة من إستراتيجية “التجميد الجزئي” التي يتبعها الضفدع الخشبي أو المتجمد، للحفاظ على الأعضاء بشكل أفضل.

على الجانب الآخر، يتبع ستوري نهجاً مختلفاً في التعامل مع هذه المشكلة، ويستلهم فكرته من الحيوانات التي تُبطئ الزمن البيولوجي دون أن تتجمد، ويضيف قائلا: “هذا هو الأفق الجديد، البقاء دافئاً مع توقف معظم وظائف الجسم الحيوية”، فبعض الحيوانات التي تدخل في حالة سبات في درجات حرارة دافئة هي الثدييات، ومن بينها الرئيسيات، وهي من أقرب الأنواع إلينا، وهو ما يفتح الباب أمام احتمالية أن الإنسان احتفظ على الأقل ببعض الآليات البيولوجية اللازمة لإبطاء معدل الأيض بدرجة كبيرة، كما تفعل هذه الحيوانات.

واكتشف ستوري وفريقه وجود “مخطط” عام أو نموذج مشترك من الاستجابات البيوكيميائية في الخلايا التي تساعد في تقليل معدل الأيض. بمعنى آخر، وجدوا أن هناك مجموعة من التفاعلات الكيميائية التي تحدث في خلايا الكائنات الحية لتقليل نشاط الأيض بصورة فعالة، وهي استجابات بيولوجية تشترك فيها مجموعة متنوعة من الكائنات الحية، وقد تكون مفتاحًا لفهم كيفية تقليل الأيض بصورة آمنة وفعالة لدى البشر.

ولكي نتمكن من إيقاظ أو تفعيل هذه العمليات البيولوجية في البشر، علينا أولًا تحديد العوامل التي تُحرك هذه العمليات، والعوامل التي توقفها. ورغم أنها مهمة صعبة، فإن الباحثين يُحرزون تقدمًا ملحوظًا في هذا المجال. فمثلا، يمكن استخدام القدرة على إبطاء الزمن البيولوجي بهذه الطريقة لتأخير العمليات الضارة، مثل تلك التي تحدث بسبب الإصابات، أو تسمم الدم، أو السكتة الدماغية، أو أمراض القلب. وفي نهاية المطاف، قد تساعد هذه القدرة البشرَ على السفر إلى مسافات بعيدة في الفضاء السحيق.

أما الجانب المثير للاهتمام في هذه التكيّفات الاستثنائية، فهو أنها غالباً ما تؤثر على باقي وظائف الجسم لدى الحيوان، فالكثير من المخلوقات التي تستطيع البقاء على قيد الحياة بدون الأكسجين، أو التي تستطيع -على سبيل المثال- خفض معدلات الأيض لديها، تعيش لفترات طويلة وبصورة تبدو خالية من علامات الشيخوخة. أحد الأمثلة على ذلك هو جرذان الخلد العارية، وهي قوارض صغيرة يُفترض -بناءً على حجم أجسامها- أن تعيش خمس سنوات فقط، لكنها في الواقع يمكن أن تعيش حتى 30 عامًا. ومع ذلك، لا يزال موتها لغزًا محيرًا. وتعليقًا على ذلك، تقول بوفنشتاين، التي تدرس هذه القوارض: “لا أعرف ما الذي يتسبب في موتها حقًا”.

على الرغم من أن حياة جرذان الخلد العارية طويلة، لكنها في الحقيقة حياة لا تُحسد عليها، إذ تعيش هذه الحيوانات في أنفاق خانقة تحت الأرض تصل فيها مستويات الأكسجين إلى درجة منخفضة للغاية، كما أن التربة التي تحفرها متخمة بمعادن ثقيلة سامة، بالإضافة إلى أن الدرنات التي تتناولها هي الأخرى سامة. لكن الجانب المشرق في الحكاية هو أن الحياة تحت الأرض تحميها من الحيوانات المفترسة والأمراض، وبالتالي لن يتعين عليها التسابق إلى التكاثر، وهو ما يسمح لها بتوجيه مواردها لمكافحة الضرر الخلوي الناجم عن بيئتها المُجهدة. وعلى مر السنين، اختبر العلماء هذه المرونة من خلال تعريضها (أو تعريض خلاياها في المختبر) لمجموعة من التحديات، مثل الأشعة فوق البنفسجية والمركبات السامة والجرعات العالية من أدوية العلاج الكيميائي. ورغم ذلك كله، لم تتأثر الفئران بهذه التحديات، وتعاملت معها بلا مبالاة، وفقًا لما تقوله بوفنشتاين.

إن المرونة التي تتمتع بها جرذان الخلد العارية تجعلها تبدو كأنها لا تشيخ أبدًا. ومع تقدمها في العمر، تظل وظائفها الحيوية على غرار وظائف القلب، وكثافة العظام، والكتلة العضلية، وعملية الأيض؛ سليمة وبحالة جيدة، حتى إن نسبة الخصوبة لدى أنثى الخلد البالغة 30 عامًا تبقى عالية، فضلا عن أن مقاومتها للسرطان تعتبر أسطورية. فخلال ثلاثة عقود من البحث، واجه فريق بوفنشتاين خمس حالات سرطان فقط عند فحص أكثر من 2000 جرذ ميت، وحينما أدخلوا نسخًا من الجينات التي تُسبب السرطان في خلايا هذه الجرذان في المختبر، لم تتسبب في نمو أي أورام عدوانية في هذه القوارض الصغيرة، على عكس باقي الثدييات الأخرى.

ولكي نستكشف القدرات المذهلة لجرذان الخلد العارية، سنحتاج إلى نسخة كاملة من جينومها. والحقيقة أن الجهد الذي نبذله في الوقت الحالي تتخلله بعض الثغرات، ومع ذلك بدأت بعض الأدلة تلوح في الأفق. فعلى عكس السلاحف حمراء الأذنين، لا تهتم هذه الجرذان بإنتاج الكثير من مضادات الأكسدة، مما يؤدي إلى تراكم مستويات عالية من التلف الخلوي في سن مبكرة. لكنْ رغم ذلك، يبدو أنها تستطيع حماية نفسها من عواقب هذا التلف عن طريق تعزيز نشاط الجينات التي تمنع الخلايا التالفة من الانقسام. والمثير للاهتمام أن البشر يتمتعون بهذه الجينات أيضًا، في حين تبدو عملية الأيض لدى هذه القوارض استثنائية حقًا، بمعنى أنها تشبه عملية الأيض لدى الحيوانات التي تتبع نظاما غذائيا منخفض السعرات الحرارية، وهو نظام يرتبط عادة بطول العمر.

التجدد السريع لثعابين البايثون

صحيح أن الاهتمام بجرذان الخلد العارية كبير تجاه ما يتعلَّق بقدراتها على مكافحة الشيخوخة والسرطان، إلا أن الوقت وحده سيُحدد هل بإمكاننا الاستفادة من تلك القدرات. لكن في الوقت ذاته، سنجد على الجانب الآخر حيوانا مذهلا لديه قدرة مدهشة يمكن أن تقدِّم وعدًا بتحقيق تقدمات كبيرة في المستقبل. إن القوة الخاصة التي تتمتع بها ثعابين البايثون هي التجدد السريع، إذ تستطيع هذه الثعابين أن تجوع لأشهر، قبل أن تلتهم حيوانًا كاملا دفعة واحدة. ومن أجل الحفاظ على طاقتها، تسمح هذه الثعابين لأعضائها الداخلية بالتقلص بين الوجبات.

وعن ذلك، يقول تود كاستو، من جامعة تكساس: “تظهر أمعاء ثعبان البايثون الصائم وكأنها أنبوب صغير فارغ”. ولكن ما إن يأكل، حتى يُعيد الثعبان بناء أعضائه الداخلية بسرعة مذهلة. وفي غضون يوم واحد، تتضاعف الأمعاء الدقيقة ويصل حجمها إلى أكثر من الضعف، كما تنتفخ الأعضاء الأخرى مثل الكبد والبنكرياس والقلب والكلى بنسبة قد تزيد على النصف. وبمجرد مرور 24 إلى 48 ساعة بعد تناول الطعام، تبدأ أعضاؤه في الانكماش مجددًا والعودة إلى وضعية الجوع أو الصيام، وتنعكس العملية برمتها مرة أخرى في غضون أسبوعين فقط.

عندما نتحدث عن كيفية تجديد أعضاء ثعبان البايثون بعد تناول الطعام، سنجد أن العلماء توصلوا إلى أن هذا التجديد مرتبط بنشاط جينات معينة. فبعض هذه الجينات يساعد على النمو، وهو ما يجعل الأعضاء تتضخم بعد الأكل. لكن ما يثير اهتمام العلماء حقًا هو وجود جينات أخرى تعمل على حماية الخلايا من الإجهاد، وهي جينات عادةً ما ترتبط بالسرطان والشيخوخة. عندما يتوقف نشاط هذه الجينات المسؤولة عن الحماية من الإجهاد، بينما تستمر جينات النمو في العمل؛ تبدأ الأعضاء في الانكماش مرة أخرى، وهو ما يعني أنهم اكتشفوا طريقة جديدة للتحكم في عملية التجديد في الفقاريات بطريقة مشابهة لتشغيل أو إيقاف مفتاحٍ ما، وفقًا لما يقوله كاستو.

لكن يبقى السؤال الأهم هنا: ما الذي يتحكم في هذه الاستجابة السريعة والمذهلة لدى ثعبان البايثون؟ يبدو أن الإجابة تكمن في شيء ما في دم الثعبان، فإذا أضفنا البلازما -وهو الجزء السائل من الدم- من ثعبان تناول الطعام مؤخرًا؛ إلى خلايا الجرذ في المختبر، فإن هذه الخلايا ستشهد زيادة كبيرة في النمو وتفعيل مجموعة من الجينات مماثلة لتلك التي تنشط في خلايا الثعبان (بعبارة أخرى، المادة السائلة من دم الثعبان تحتوي على عناصر يمكنها تحفيز خلايا الجرذ على التكاثر والنمو بطريقة مشابهة لما يحدث في خلايا الثعبان*)، وهذا يعني أن الإشارة التي تُحفز الأعضاء في الثعبان يمكنها أيضًا التفاعل مع خلايا الثدييات أيضًا.

وحاليا، يبحث كاستو وفريقه عن هذه الإشارة الغامضة، ويوضح ذلك بالقول: “لا أعتقد أنه من المفيد الحصول على دواء يجعل جميع أعضائك تنمو فجأة بصورة غير طبيعية، ولكن إمكانية استخدام الأفكار المستمدة من الثعابين لتجديد أعضاء محددة، أو منع نمو الأورام، هي فكرة مثيرة للاهتمام”.

إن الاهتمام بطريقة تكيّف الحيوانات لا يقتصر فقط على محاولة تقليد هذه القدرات الخارقة، ولكنه يوفر أيضًا نافذة فريدة لفهم كيفية عمل الجسم البشري على نحو أفضل. فمثلا، يدرس العلماء الثعابين لفهم كيفية تغيّر وظائف الجسم لدينا بعد تناول الطعام، وهو ما قد يساعد في التعرف على حالات صحية، مثل السكري والسمنة. كما يمكن لهذه القدرات الخارقة أن تساعدنا في فهم إمكانيات الحياة فهمًا أوسع. وتأكيدًا على ذلك، يقول كاستو: “إن ما نتعلمه عن البيولوجيا الأساسية من خلال دراسة هذه الكائنات الغريبة هو شيء ثمين للغاية، كما أن دراسة هذه الكائنات تشبه النظر إلى جبل من زاوية غير متوقعة، بحيث تعطينا منظورًا جديدًا ومختلفًا في كل مرة”.

أوقف الزمن

لا يوجد حيوان يتمتع بمرونة هائلة تشبه إيقاف الزمن مثلما يفعل “التارديغرادا”، أو ما يُعرف باسم “بطيء الخطوة”، وهو مخلوق يتمتع بقدرة هائلة على الصمود لدرجة أنه يكاد يوقف الزمن تقريبًا. فعندما يواجه الجفاف، يمكن لهذا الكائن الدقيق ذي الأرجل الستة، والمعروف أيضًا باسم “الدب المائي”؛ أن يُبطيء من عمليات الأيض إلى درجةٍ يصعب معها للغاية الكشفُ عن أي علامات للحياة (بمعنى أن العلامات الحيوية تكون ضعيفة للغاية أو غير ملحوظة تقريبًا، بما يصعب معه التأكد من بقائه حيًّا*)، وهي حالة سبات تُعرف باسم “الحيوية الخفية”. وبهذه الطريقة، يمكن لهذه الكائنات البقاء على قيد الحياة حتى في ظل تعرضها لإشعاع غاما، ودرجات الحرارة القصوى، كما يمكنها الحياةُ حتى في الظروف القاسية للفضاء الخارجي، وربما لديها القدرة على النجاة إذا ما هبطت على سطح القمر.

سنجد على الجانب الآخر، أن قدرة الدببة المائية على إبطاء الزمن البيولوجي ألهمت العلماء في وكالة مشاريع البحوث الدفاعية الأميركية (داربا) إنشاء برنامج بحثي يسمى “بيوستاسيس”. ففي سياق المعارك، عندما يتعرض الجنود للإصابات، يكون من الضروري تقديم العلاج في وقت سريع لزيادة فرص بقائهم على قيد الحياة. ولكن في بعض الأحيان، يغدو من الصعب الوصول إلى الجنود المصابين وتقديم العلاج لهم خلال “الساعة الذهبية” (وهي الوقت الحرج بعد الإصابة الذي يكون فيه التدخل الطبي أكثر فعالية*).

يهدف برنامج “بيوستاسيس” إلى استخدام إستراتيجيات مشابهة لما تفعله الدببة المائية لتقليل حاجة الجنود المصابين إلى العلاج الفوري، من خلال إبطاء عمليات الجسم بطريقة تجعل الجرحى يبقون في حالة يمكن التعامل معها لفترة أطول، مما يمنح الأطباء مزييدا من الوقت لمعالجتهم بعد الإصابة.

لذلك، رغب علماء “داربا” في دراسة العمليات البيولوجية المشتركة بين مجموعة واسعة من الحيوانات التي يمكنها إبطاء الزمن البيولوجي، مثل الدببة المائية، أو الدببة التي تدخل في سبات شتوي، وركزوا على القدرة على إعاقة نشاط البروتينات التي تدفع عمليات الأيض داخل الخلايا. وبعد ذلك، حددوا ثلاث طرق تستخدمها الحيوانات لتحقيق هذا الهدف المنشود، ثم تحدّوا باحثين آخرين لمحاكاة هذه العمليات البيولوجية في سياقات أخرى.

ونتيجة لذلك، يحاول فريق من جامعة هارفارد تطوير طرق لتحفيز إبطاء الزمن البيولوجي لتكون مشابهة لتلك الموجودة في الطبيعة. فمثلا بدأ الفريق في ابتكار أدوية يمكنها تثبيت البروتينات في حالة غير نشطة، في محاولة لمحاكاة السلوك الطبيعي لما يُسمى البروتينات المرافقة أو المساعدة (هذه البروتينات تساعد في الحفاظ على البروتينات الأخرى في حالة نشطة وصحية*)، في حين طوّر فريق آخر جزيئات يمكن أن تترابط داخل الخلايا لتكوين هياكل شبكية، بحيث تعمل هذه الهياكل على طرد البروتينات من أماكنها مما يؤدي إلى إبطاء نشاطها الأيضي. كما تتّبع فرق أخرى نهجا ثالثا يهدف إلى إنتاج نسخ مصممة من البروتينات المضطربة أو غير المنتظمة، التي تُنتجها الدببة المائية بكميات هائلة عند تعرضها للضغط، لتعمل كمرافقات أو بروتينات مساعدة تطرد البروتينات الأخرى (مما يسهم في إبطاء النشاط الأيضي*).

إن تحويل هذه التطورات إلى أدوية ستكون مهمة شاقة للغاية، ومع ذلك يتعامل برنامج “بيوستاسيس” مع هذا النهج خطوة بخطوة، ويسعى للحصول على تكنولوجيا قابلة للاستخدام من كل مرحلة. تهدف الخطوة الأولى إلى تثبيت البروتينات الفردية في درجة حرارة الغرفة، وهو ما قد يساعد في تطوير لقاحات وعلاجات بالأجسام المضادة لا تحتاج إلى حفظها في درجات حرارة منخفضة، وسيكون أول المستفيدين من هذه الخطوة؛ المناطقَ النائية التي قد لا تتوفر فيها تقنيات الحفاظ على البرودة. أما الخطوة التالية فتهدف إلى إبطاء البيولوجيا داخل الخلايا إبطاءً كاملا، وهو ما قد يؤدي إلى زيادة مدة صلاحية الدم المتبرع به.

في نهاية المطاف، يمكن استغلال القدرة على إبطاء العمليات البيولوجية في الأنسجة للحد من النزيف وموت الأنسجة وتسمم الدم في ساحة المعركة. كما يمكن أن يكون لها تطبيقات مدنية، مثل الحد من الأضرار الناجمة عن النوبات القلبية والسكتات الدماغية. ويختتم تريستان ماكلور بيغلي، الذي يرأس برنامج “بيوستاسيس” بالقول: “إنني مفتون حقًا برؤية مدى التقدم الذي يمكن إحرازه بهذه الأدوات التي نطورها في هذا المجال”.

* إضافات من المترجم

هذه المادة مترجمة عن موقع نيوساينتست، ولا تعبر عن الجزيرة نت بالضرورة

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version