قبل نحو 40 عاما، تأسس في الأرجنتين فريق علمي حمل اسم “فريق الأنثروبولوجيا الشرعية”، وكان واحدا من أهم أنشطته، استخدام تحليل الأسنان لتحديد هوية الآلاف من ضحايا نظام الحكم العسكري، والذين عثر عليهم في مقابر جماعية بعد انتهاء فترة “الحرب القذرة” (1976-1983) بين نظام الحكم العسكري والمعارضة اليسارية، التي شملت مجموعات مسلحة ومدنية.

وحاز هذا الفريق شهرة عالمية بعد تمكنه من التوصل لهوية آلاف المفقودين باستخدام التحليل السني والحمض النووي، لتلهم تجربة نجاحه، تجارب مماثلة في أجزاء أخرى من العالم، وهو ما دفع فريقا بحثيا من جامعة دندي بأسكتلندا يقوده باحث من أصول سورية، إلى محاولة استشراف إمكانية استخدام هذه الوسيلة في تحديد هوية المفقودين خلال الحرب التي امتدت لأكثر من 13 عاما، منذ اندلاع الثورة السورية في عام 2011.

وبالتزامن مع سقوط  نظام بشار الأسد، حيث فقد الآلاف في غياهب سجونه، ترجح دراسة نشرت بعدد ديسمبر/كانون الأول الجاري في دورية ” فورنسيك ساينس إنترناشونال” أنه يمكن التعرف على رفات هؤلاء الضحايا باستخدام أدوات “التعرف المقارن” للأسنان المرصودة بالدراسة، ولكنها تواجه بعضا من التحديات.

ما هو التعرف المقارن؟

والتعرف المقارن للأسنان، تقنية طبية شرعية تُستخدم لتحديد هوية الأشخاص بناء على الخصائص الفريدة لأسنانهم، وتتضمن هذه الطريقة مقارنة السجلات السنية (مثل الأشعة السينية، جداول الأسنان، والصور) للأشخاص المفقودين مع البقايا العظمية غير المعروفة بهدف تحديد الهوية.

وتعتمد تلك التقنية على المعلومات التي يمكن العثور عليها بالسجلات السنية قبل الوفاة (مثل تلك التي يحتفظ بها أطباء الأسنان أو مقدمو الرعاية الصحية)، للبحث عن أوجه التشابه مع البقايا العظمية غير المعروفة، وتشمل هذه السجلات الحشوات، التيجان، التسوس، نمط التآكل، والخصائص الفريدة مثل محاذاة الأسنان أو الأسنان المفقودة.

وعلى الرغم من أهمية تلك الطريقة وفعاليتها في التجارب السابقة، فإن الدراسة للباحثين من جامعة دندي بأسكتلندا، كشفت عن مجموعة من التحديات في الحالة السورية تجعل هناك صعوبة في تطبيقها بالوقت الراهن.

وشملت الدراسة استبيانات أجاب عليها 4 مجموعات مختلفة (الجمهور العام، أطباء الأسنان، أطباء الأسنان الشرعيون، وجمعية طب الأسنان السورية)، وسلطت الضوء على التحديات الكبرى التي تواجه جهود تحديد الهوية في سوريا باستخدام الأسنان، حيث أجمعوا على مجموعة منها، وأبرزها نقص التدريب والخبرة في مجال الطب الشرعي، ونقص السجلات الطبية المسبقة، التي تعتبر ضرورية للمقارنة مع البيانات بعد الوفاة.

وأعرب 80% من الجمهور، و50% من أطباء الأسنان، و92% من أطباء الأسنان الشرعيين عن شكوكهم في إمكانية تنفيذ التحليل المقارن للأسنان بشكل فعال في سوريا في الوضع الحالي لنقص الخبرة المحلية، وأقر أكثر من 92% من أطباء الأسنان الشرعيين بأن نقص التدريب يمثل عائقا رئيسيا، في حين أشار أكثر من 90% منهم، إلى أن الوعي العام حول موضوع طب الأسنان الشرعي لا يزال محدودا.

كنز الأسنان لا ينضب

وفي حين أن الدراسة تقدم أدلة على أن التعرف المقارن، قد لا يكون قابلا للتطبيق في سوريا، فهذا لا يعني بالضرورة أنه لا يمكن استخدام الأسنان في التعرف على رفات بشرية في سوريا، كما يقول طبيب الأسنان السوري والعالم في مجال طب الأسنان الشرعي بجامعة دندي بأسكتلندا، والباحث الرئيسي بالدراسة رواد قاق، في تصريحات خاصة للجزيرة نت.

وعانى قاق قبل 11 عاما من رحلة هجرة شاقة استمرت 22 يوما، عبر البحر الأبيض المتوسط بواسطة قارب، ومن ثم عبر البر إلى ألمانيا، قبل أن يصل إلى جامعة دندي بمنحة إنسانية لدراسة طب الأسنان الشرعي.

ويقول الباحث السوري: “إذا كانت التحديات تحول دون تطبيق تقنيات التعرف المقارن، فهذا لا يعني بالضرورة أنه لا يمكن استخدام الأسنان في التعرف على رفات بشرية في سوريا”.

والأسنان تُعتبر من أكثر أجزاء الجسم بقاء بعد الوفاة لأنها أكثر مقاومة للتلف في ظروف التحلل، مما يجعلها أداة قابلة للاستخدام في حالات أخرى يشير إليها قاق، ومنها:

  • تحليل الحمض النووي: في بعض الحالات، يمكن استخراج الحمض النووي من اللب السني أو أنسجة أخرى داخل الأسنان، وهو ما يُستخدم للتعرف على الهوية من خلال مقارنة الحمض النووي مع عينات من أقارب المفقود.
  • تحليل الأنساب الجغرافية: من خلال دراسة تركيبة الأسنان، بما في ذلك النظائر التي تتراكم فيها خلال نمو الأسنان، يمكن للعلماء تحديد الأنماط الغذائية والبيئية التي قد تشير إلى أصول جغرافية محتملة للشخص.
  • تقدير العمر: يُمكن تقدير عمر الشخص من خلال تحليل معدل تآكل الأسنان، وخصائص النمو والتطور التي تظهر في مختلف المراحل العمرية.

توظيف الذكاء الاصطناعي

ومع ذلك، فإن قاق لم يغلق باب الأمل في التغلب على تحديات التعرف المقارن باستخدام الأسنان، وقال: “لقد قمت بالفعل بإعداد مقترح بحثي يتضمن تقنية جديدة للتغلب على التحديات في مواقف مثل سوريا حيث يتم فقدان السجلات السنية ووسائل أخرى (مثل الحمض النووي)، التي تكون غير قابلة للتطبيق على نطاق واسع ومكلفة”.

وتعتمد تقنيته الجديدة على التقاط صورة لأسنان رفات الموتى التي يتم العثور عليها، ليتم مقارنتها بصور للمفقودين يحتفظ بها ذووهم وتظهر فيها أسنانهم، ومن خلال برنامج قائم على الذكاء الاصطناعي، يمكن التوفيق بين الصورتين بنسبة نجاح كبيرة”.

ويطلب من القائمين على الأمر في سوريا حاليا التقاط صور لأسنان رفات الموتى عندما يتم العثور عليها، مضيفا: “على الأقل سنستطيع مستقبلا أن نقول لذويهم من خلال مضاهاة الصور، إن كان الشخص الذي يسألون عنه قد توفى أم لا يزال هناك أمل للعثور عليه حيا”.

وهذه التقنية التي سيعلن قاق عن تفاصيلها قريبا، ليست هي الأولى له، إذ ارتبط اسمه قبل 5 سنوات بتقنية رائدة حازت اهتماما عالميا، عندما تمكن من تحقيق إنجاز فريد بنجاحه في تحديد جنس ضحايا الحروب اعتمادا على مقاييس الجمجمة.

والتقنية التي طورها حملت اسم “آلة حاسبة لتحديد الجنس”، واعتمد تطويرها على اختبار 22 قياسا شائعا على 135 صورة شعاعية (أشعة سينية) للجمجمة تم توفيرها من قبل جمعية أطباء الأسنان التقويمية الأميركية، وبعد إجراء التحليل الإحصائي، توصل إلى أن 4 قياسات فقط تكفي لتحديد جنس الجمجمة بدقة، وبعد تطبيق المعادلة التي تم تطويرها على 15 عينة جديدة، تم التنبؤ بجنس 13 جمجمة بدقة 86%.

ويقول: “استلهمت هذه التقنية والتقنية التي سأعلن عن تفاصيلها قريبا، من المشاكل التي يواجهها الأطباء الشرعيون بسوريا عند تحديد هوية الضحايا مع غياب الآليات والتقنيات الحديثة التي تساعد على تحليل البقايا البشرية”.

ويضيف: “كنت أتمنى أن أكون معهم للمشاركة بدور فعال في معالجة قضية المفقودين، والتي اتفق أغلب من شملتهم دراستي الأخيرة على أنها بالغة الأهمية لإعادة بناء سوريا على أساس سليم، لكن عزائي في أن أكون مساهما من خلال التقنيات التي طورتها”.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version