في قلب الصحراء، حيث تلتقي الرمال مع الصخور، يتوارى العقرب، أحد أكثر الكائنات غموضا وفزعا، والذي يخفي في ذيلة سما قاتلا، قد يحمل في طياته آمالا جديدة للعلاج الطبي أو حتى التوظيف لأغراض صناعية.

وتبدأ خطوات تحويل تلك النقمة إلى نعمة، بفهم أسرار تلك السموم واختلاف تركيبتها، وفق نوع العقرب، وهو ما سعى له فريق بحثي مغربي فرنسي، حيث نجحوا  خلال دراسة نشرتها دورية ” جورنال أوف بروتيوميكس”، في التعرف على نوع العقارب المغربية باستخدام “بصمة السم”، وهو ما يعد تقدما في مجال التصنيف العلمي لهذه الكائنات.

ولفهم ما فعله الباحثون، تخيل أنك تحاول التعرف على أنواع مختلفة من الطيور بناء على نغماتها، فقد تكون بعض النغمات متشابهة بين الأنواع، لكن إذا كنت تستخدم جهازا متقدما لتسجيل النغمات وتحليلها، فستلاحظ أن كل نوع له نغمة فريدة خاصة به، وباستخدام هذه المعلومات، يمكنك بناء نظام حاسوبي يتعرف على الطيور بناء على هذه النغمات، حتى لو كانت الأنواع متشابهة جدا.

وبنفس الطريقة، قام الباحثون باستخدام تقنية ” التحليل الطيفي بالليزر” لتحليل السموم التي تعتبر “البصمة الفريدة” لكل نوع عقرب، وهذه الطريقة سمحت لهم ببناء مكتبة تحتوي على بصمات جزيئية مميزة لكل نوع، واستخدامها للتعرف بسرعة على العقارب الجديدة من خلال مقارنة بصمة سمّها مع المكتبة.

البداية بجمع العينات

ويحتضن المغرب أكثر من 60 نوعا من العقارب، ولكل منها سماته الخاصة، سواء في السلوك أو التركيب السمي، وهذه الأنواع لا تنتشر على نطاق واحد، بل تتنوع بين البيئات الصحراوية، المناطق شبه الجافة، والجبال، مما يخلق تحديات متعددة بالنسبة للباحثين الراغبين في تصنيف العقارب أو دراسة سمومها.

وفي إطار هذه الدراسة،  أطلق الفريق البحثي حملة شاملة لجمع عينات من العقارب من مختلف أنحاء المغرب، مع التركيز على الأنواع المستوطنة والمميزة التي تحتوي سموما شديدة السمية.

وبدأ الفريق في جمع العينات من 22 موقعا مختلفا في 7 مناطق جغرافية متنوعة من المغرب، وهو ما سمح لهم بتغطية مجموعة واسعة من البيئات، من الصحارى إلى المناطق شبه الجافة وصولا إلى الجبال.

ويقول الباحث بمختبر البيوتكنولوجيا وتثمين الموارد الطبيعية بكلية العلوم جامعة ابن زهر بمدينة أكادير المغربية، والباحث الرئيسي بالدراسة،  د.مولاي عبد المنعم الحيدان في تصريحات خاصة للجزيرة نت: “كان استخدام الضوء فوق البنفسجي حلا عبقريا لاصطياد العقارب في الظلام”، فعلى الرغم من التحديات التي تطرحها بيئات العقارب، إلا أن التكنولوجيا الحديثة لعبت دورا محوريا في تسهيل عملية جمع العينات.

وباستخدام مصابيح الأشعة فوق البنفسجية  التي تجعل العقارب تتوهج في الظلام، تمكّن الفريق من تحديد موقعها بدقة، خاصة في الليل عندما تكون أكثر نشاطا.

ويوضح أن “جمع العينات كان عملية دقيقة تخضع لعدد من المعايير العلمية، و الهدف الأساسي هو الحصول على عينات تمثل التنوع البيولوجي الكامل للعقارب في المغرب، ولم يكن التركيز فقط على الأنواع الشائعة، بل كان الأمر يشمل أيضا الأنواع النادرة أو المستوطنة، وهي التي تتمتع بسمية عالية وتعتبر محل اهتمام علمي خاص”.

Egyptian pharmacist Nahla Abdel-Hameed catches a scorpion at the Scorpion Kingdom laboratory and farm in Egypt's Western Desert, near the city of Dakhla in the New Valley, some 700 Southeast the capital, on February 4, 2021. Biomedical researchers are studying the pharmaceutical properties of scorpion venom, making the rare and potent neurotoxin a highly sought-after commodity now produced in several Middle Eastern countries. (Photo by Khaled DESOUKI / AFP)

التحليل الطيفي بالليزر

وبعد جمع العينات من العقارب، كانت المرحلة التالية هي استخدام تقنيات تحليلية متطورة لفهم تركيب سموم هذه الكائنات التي تعيش في بيئات مختلفة، فالعقارب تنتشر في مناطق بيئية متنوعة، مما يجعل السموم التي تنتجها تختلف من نوع إلى آخر، ومن هنا نشأت الحاجة لتطوير نموذج حاسوبي يمكنه دمج جميع هذه المعطيات وتحليلها بدقة لتصنيف العقارب بشكل علمي.

ومكنت التقنية المتقدمة للتحليل الطيفي باستخدام الليزر الباحثين من استخراج وتحليل سموم العقارب بشكل فعال ودقيق. وتتيح تلك التقنية استخدام الليزر لاستخراج الجزيئات من العينة (في هذه الحالة سم العقرب)، ثم تحليل هذه الجزيئات باستخدام جهاز يسمى “جهاز التحليل الطيفي الكتلي”.

وعند تطبيق هذه التقنية على سم العقرب، يقوم الليزر بتفتيت السم إلى جزيئات صغيرة جدا، وبعد ذلك، يتم قياس الكتل الجزيئية لهذه الجزيئات باستخدام جهاز التحليل الطيفي، و تكون النتيجة هي “طيف الكتل الجزيئية”، وهو نوع من “البصمة” الكيميائية التي يمكن أن تشير إلى تكوين السم.

ويحتوي طيف الكتل الجزيئية على العديد من القمم (أو النقاط) التي تمثل جزيئات ذات أحجام مختلفة، ويمكن من خلال دراسة هذه القمم معرفة التركيبة الدقيقة للسم، وهذه التركيبة قد تحتوي على مواد سامة مختلفة، مثل البروتينات أو الجزيئات الأخرى التي تساهم في تأثير السم.

ومن خلال هذا التحليل، يمكن مقارنة طيف الكتل الجزيئية بين الأنواع المختلفة من العقارب ومعرفة الاختلافات في سمومها، على سبيل المثال، قد يكون لدى عقرب صحراوي سم يحتوي على مركبات سامة مختلفة، مقارنة بعقرب يعيش في مناطق جبلية، وبالتالي يساعد هذا التحليل في تحديد الفرق بين سموم الأنواع المختلفة.

توظيف الخوارزميات الجينية

بعد جمع البيانات وتحليلها باستخدام “التحليل الطيفي بالليزر”، جاء دور معالجة هذه البيانات بواسطة الخوارزميات الجينية، وهي نوع من تقنيات الذكاء الاصطناعي، التي تستخدم فكرة مستوحاة من التطور البيولوجي.

وفي الطبيعة، تتكيف الكائنات الحية مع بيئاتها بمرور الوقت، وعلى نفس المنوال، فإن الخوارزميات الجينية “تتعلم” من البيانات التي تتلقاها وتبحث عن أنماط معينة أو “توقيعات جزيئية” تميز كل نوع من العقارب، وبمعنى آخر، مثلما تتغير الكائنات الحية لتناسب بيئاتها، فإن الخوارزميات تتعلم من البيانات لتحسين أدائها.

وعند إدخال بيانات السموم التي تم جمعها باستخدام تقنية التحليل الطيفي بالليزر في برنامج يسمى ” كلين برو تولز”، والذي يقوم باستخدام الخوارزميات الجينية للبحث عن هذه التوقيعات الجزيئية المميزة لكل نوع من العقارب، ويعني هذا أن البرنامج يستطيع تحديد السم بدقة بناء على هذه “التوقيعات” الجزيئية، مما يساعد العلماء على فهم نوع السم وأثره.

وكما يوضح الدكتور الحيدان “الهدف لم يكن فقط تصنيف العقارب إلى أنواع، بل كان الهدف الأكبر هو تطوير نموذج حسابي يمكنه التنبؤ بتركيب السم بناء على العوامل البيئية المختلفة مثل المناخ أو النظام البيئي الذي تعيش فيه العقارب، وبالتالي، هذا النموذج يساعد العلماء في فهم كيف تؤثر البيئة في تركيب السم وخصائصه”.

تقييم دقة النموذج الحسابي

ولعب التنوع البيولوجي دورا رئيسيا في تحسين دقة هذا النموذج الحسابي المستخدم لفهم سموم هذه الكائنات، إذ يتمتع المغرب بتنوع بيئي هائل، حيث يضم أكثر من 60 نوعًا من العقارب، وهو ما يمثل تحديا كبيرا عند محاولة فهم سموم هذه الأنواع المتعددة.

ويقول الحيدان “أجرينا دراستنا على 15 نوعا فقط من العقارب، وهو ما يمثل نحو 25% من تنوع العقارب في المغرب، و هذه العينة الواسعة مكنتنا من بناء نموذج حسابي دقيق يعكس التباين البيئي والسمّي بين الأنواع المختلفة،  فقد شملت الدراسة مناطق بيئية متنوعة مثل الصحاري والمناطق شبه الجافة والمناطق الجبلية، وكل منها يترك تأثيرا خاصا على حياة العقارب وسمومها”.

ولم تقتصر دقة النموذج الحسابي على تصميمه فقط، بل شملت أيضا طريقة تقييمه والتحقق من مصداقيته.

واستخدم الباحثون التحقق الخارجي كأداة لضمان أن النتائج التي تم الحصول عليها دقيقة وموثوقة، وهذا التحقق يتم من خلال اختبار النموذج باستخدام بيانات جديدة لم تستخدم في مرحلة تدريب الخوارزمية، والهدف هو التأكد من أن النموذج قادر على التنبؤ بدقة باستخدام بيانات لم يكن قد تعرض لها من قبل.

ويتم تقييم دقة النموذج عبر عدة مقاييس علمية، مثل الحساسية (أي قدرة النموذج على اكتشاف العقارب من الأنواع الصحيحة) والخصوصية (أي قدرته على تحديد العقارب التي لا تنتمي إلى النوع الصحيح)، بالإضافة إلى حساب معدل الخطأ الإيجابي ومعدل الخطأ السلبي.

في هذا السياق، يقول الدكتور الحيدان “من المهم اختبار النموذج باستخدام بيانات خارجية لأن ذلك يوفر تأكيدا إضافيا على مصداقية النتائج، وهذا يضمن أن التصنيف الذي قام به النموذج يعكس الواقع البيئي بشكل حقيقي”.

وبعد النجاح في بناء نموذج حسابي دقيق لتصنيف العقارب، يخطط الدكتور الحيدان وفريقه للخطوات المستقبلية، والتي تشمل توسيع الدراسة لتشمل أنواعا أخرى من العقارب في المغرب وربما في دول أخرى.

ويضيف “نحن نخطط لإثراء مكتبتنا من النماذج الجزيئية وتوسيع قاعدة البيانات لتشمل المزيد من الأنواع، وبالطبع، ستكون الدراسة على الأنواع الأجنبية خطوة مهمة في المستقبل”.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version