مع ظهور متنبئ الزلازل الهولندي فرانك هوغربيتس، الذي ملأ الدنيا ضجيجا بعد زلزال تركيا في فبراير/شباط الماضي، بادعائه توقع حدوثه قبل اهتزاز الأرض بأيام، كان المجتمع العلمي الخاص بالزلازل يرد على ما يشيعه هذا الرجل من الربط بين حركة الأجرام السماوية والهزات الأرضية، بأنه “كلام غير علمي، أقرب إلى الدجل”، متسائلين باستنكار “هل توجد دراسات علمية نشرها هذا الرجل؟”.

هذه المرة يبدو الوضع مختلفا، ذلك أن ادعاءات التنبؤ تأتي عبر دراسة علمية لباحثين فرنسيين ذوي شأن في الجيودسيا (علم يبحث في الموضوعات التي تتصل بحجم الأرض وشكلها وأبعادها وباطنها ومجالها المغناطيسي وحرارة باطنها)، كما أن هذه الدراسة نشرت في يوليو/تموز الماضي بدورية “ساينس” ذائعة الصيت، وذات معامل التأثير الكبير، وهو ما أكسبها اهتماما كبيرا فور صدورها، ما لبث أن تلاشى بعد أن طالتها سهام الانتقادات من باحثين كبار، شككوا في نتائجها، مؤكدين أن نشرها في الدورية الشهيرة، لا يعصمها من الانتقادات.

ظمأ عمره نصف قرن

وقبل أن يتناول المجتمع العلمي بمزيد من الفحص والتدقيق، بدت الدراسية كأنها “الأمل” الذي سيروي ظمأ عمره أكثر من نصف قرن، حيث كان العلماء يبحثون خلال تلك الفترة الطويلة عن إشارات تمهيدية تتنبأ بمكان حدوث الزلازل في دقائق أو ساعات أو أيام قبل أن تبدأ الأرض في الاهتزاز، وزعمت الدراسة الفرنسية في مقدمتها بأنها عثرت على تلك الإشارة، التي يمكن تتبعها من خلال الحركات المسجلة بواسطة بيانات نظام تحديد المواقع العالمي “جي بي إس” في الساعتين السابقتين لحدوث زلزال كبير، غير أن العلماء الذين فحصوا ودققوا في التفاصيل، اكتشفوا أن هذه الإشارة المزعومة، ما هي إلا سراب.

الثابت علميا، أن التنبؤ بالزلزال ليس ممكنا، لأنه لا توجد علامة أولية على حدوث زلزال حتى تبدأ الأرض بالاهتزاز فعليا، لكنّ أصحاب الدراسة؛ الباحثين كوينتين بلتيري وجان ماثيو نوكيه من جامعة “كوت دازور” في جيوزور بفرنسا، ذهبا في دراستهم إلى أن تحليلهما لـ90 زلزالا سابقا، يشير إلى أن الزلازل الكبيرة تبدأ بمرحلة تمهيدية من الانزلاق تأتي خلال ساعتين قبل حدوث الزلزال نفسه، وهذا وقت كاف للمسؤولين لتقديم التحذير في المناطق المتضررة.

كيف اكتشفوا “الانزلاق”؟

وخلال الدراسة، حلّل الباحثان تاريخ بيانات نظام تحديد المواقع العالمي الدقيقة للغاية، والتي توضح الحركة على خط الصدع قبل 48 ساعة من 90 زلزالا كبيرا، واكتشفوا إشارة متكررة تظهر قبل وقت طويل من حدوث الزلزال، مما يتيح للسلطات الوقت لإصدار تحذير.

ووجدوا أنه في المتوسط، تسارعت الحركات الأفقية لمحطات نظام تحديد المواقع العالمي بشكل كبير في اتجاه يتوافق مع انزلاق الصدع البطيء بالقرب من نقطة نواة الزلزال النهائية في الساعتين الأخيرتين قبل وقوع الزلزال، ويقول العالمان الفرنسيان إن العلامات التي تشير إلى حدوث زلزال كبير تظهر قبل حوالي 110 دقائق من وقوع الزلزال.

وللتأكد من أن اكتشافهم لم يكن مجرد حدث عشوائي، حلّلا أيضا 100 ألف نافذة من بيانات نظام تحديد المواقع العالمي مدتها 48 ساعة، والتي لم تنته بهزات أرضية كبيرة.

Seismograph for earthquake detection or lie detector is drawing chart. 3D rendered illustration.

بيانات ضوضائية

لم تمر ساعات على نشر الدراسة حتى تسارع الباحثون إلى الاطلاع عليها، وقد وصلت معدلات اقتباسها إلى أكثر من 38 ألفا، خلال 30 يوما، وهو معدل كبير جدا، لكنه ليس دليل ثقة في نتائجها، بقدر ما هو اهتمام من المجتمع البحثي بالاطلاع عليها وتقييمها.

وكانت أغلب التقييمات ذات اتجاه سلبي، إذ نشرت جوديث هوبارد، الباحثة المتخصصة في علوم الأرض بجامعة هارفارد الأميركية، ومعاونها برادلي، مقالا على موقع “سبستاك” (Substack) يحمل تشكيكا في دقة البيانات التي توصل لها الباحثان الفرنسيان، وقالا في مقالهما إنهما استخدما نفس البيانات المقدمة من الباحثين الفرنسيين، وأعادا تحليلها لتكرار النتائج التي توصلا إليها، ولم تظهر جهود هوبارد وبرادلي أي انزلاق تمهيدي يحدث خلال ساعتين ولم تظهر أي إشارة واضحة تشير إلى أن الزلزال كان وشيكا، وبدلا من ذلك، وجدا أن الإشارة المفترضة كانت مجرد “بيانات ضوضائية” مصدرها نظام تحديد المواقع العالمي، وليست مؤشرا على وقوع زلزال وشيك. والبيانات الضوضائية، هي “معلومات إضافية لا معنى لها”.

وقد أعادت هوبارد التأكيد في تصريحات خاصة عبر البريد الإلكتروني للجزيرة نت على أن الإشارة المزعومة في الدراسة الفرنسية لم تكن سوى هذه النوعية من البيانات، وقالت إنه “رغم أن التنبؤ قبل وقوع الزلزال بمدة ساعتين أو حتى 5 دقائق، سيكون مفيدا جدا، لكن لا يبدو ذلك ممكنا”.

رفض ياباني

وانتقد إيكو توهاتا، أستاذ الهندسة الجيوتقنية في جامعة طوكيو اليابانية، الدراسة من وجهة نظر أخرى، وقال في تصريحات خاصة عبر البريد الإلكتروني للجزيرة نت إن “العثور على الإشارة المزعومة للتنبؤ بالزلزال قبل حدوثه، يحتاج -إذا افترضنا دقة البيانات التي توصل لها الباحثون- مراقبة الصدوع المرشحة لحدوث الزلازل بشكل دقيق، وهذا يصعب تحقيقه على أرض الواقع”.

وشارحا ما ذهب إليه الأستاذ الياباني يقول شريف الهادي، رئيس قسم الزلازل بالمعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية بمصر في تصريحات هاتفية للجزيرة نت إن “الحصول على بيانات كالتي ينشدها الباحثون الفرنسيون يتطلب إنشاء شبكة واسعة من أجهزة استشعار نظام تحديد المواقع العالمي على طول الصدوع الكبرى التي تكون مصدرا للزلازل، وهذا أمر فوق الطاقة الاقتصادية لمعظم الدول”.

وأوضح أن “البيانات الضوضائية” التي أشارت إليها هوبارد، سببها أن أنظمة تحديد المواقع العالمية المعمول بها حاليا، ليست حساسة بما يكفي لاكتشاف إشارات التحذير عند حدوثها، هذا فضلا عن الزلازل يمكن أن تأتي من أماكن غير معتادة مثلما حدث في زلزال 1992 في مصر، والذي لم يكن مصدره أحد الصدوع الشهيرة، وإنما جاء من منطقة غير معتادة، وهي “دهشور” بمحافظة الجيزة المصرية.

دفاع فرنسي

من جانبه، تبرأ الباحث الفرنسي كوينتين بلتيري، من أن تكون دراسته وزميله جان ماثيو نوكيه، قد ادعت التنبؤ بالزلازل، وذلك رغم أن مضمونها يشير إلى ذلك.

وقال بلتيري في تصريحات عبر البريد الإلكتروني للجزيرة نت “لم نزعم مطلقا في الدراسة أنه يمكن تطبيق نهجنا للتنبؤ بالزلازل، فدراستنا تهدف فقط إلى تسليط الضوء على أن الصدوع من المحتمل أن تبدأ في الانزلاق قبل وقوع الزلازل الكبيرة، ومن أجل مراقبة الإشارة، كان علينا تجميع البيانات المسجلة قبل الزلازل الكبيرة بعد إسقاطها في اتجاه الإزاحة المتوقعة، والتي لا يمكننا معرفتها مسبقا”.

وأوضح أن ما ذهبت إليه الباحثة الأميركية غير دقيق، حيث ذهبت إلى أن إزالة الجزء المشترك من السلسلة الزمنية لنظام تحديد المواقع العالمي (الذي نسميه الوضع المشترك)، يؤدي لاختفاء الإشارة، وفسروا ذلك الوضع الشائع على أنه بيانات ضوضائية، وهو تبسيط مبالغ فيه.

وعلى ذلك، فإنه، لا يمكننا حاليا التنبؤ بالزلازل الكبيرة، رغم حقيقة أن الجيولوجيين يبحثون عن طريقة موثوقة منذ عقود.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version