توجهت البشرية منذ القدم إلى الطبيعة على اعتبارها مصدر إلهام لا ينفد من الأفكار والحلول والاختراعات الجديدة.

وفي عصرنا الحالي الذي شهد قفزات هائلة في مجال الحوسبة والذكاء الاصطناعي، وغيرها من الابتكارات الثورية، لا غنى للعلماء في إيجاد حلول للمشاكل التي تواجههم عن الطبيعة.

وأثار النمل دهشة العلماء وحيرتهم، بسبب مجتمعاتهم عالية التنظيم، وأنظمة الاتصال المعقدة، وقدراتهم المثيرة للإعجاب في حل المشكلات. وكان علماء علم النمل الأوائل، مثل عالم الحشرات السويسري أوغست فوريل، روادا في مراقبة وتوثيق سلوك النمل في بيئته الطبيعية.

ووضع عمل فوريل الأساس للباحثين المستقبليين للتعمق أكثر في عالم النمل والكشف عن أسرار تنظيمهم الاجتماعي الرائع.

وفي القرن العشرين، توسع مجال علم الفطريات حيث بدأ الباحثون في استكشاف الأدوار البيئية للنمل وتفاعلاتهم مع الكائنات الحية الأخرى. وكان لعمل عالم الأحياء البريطاني إي أو ويلسون، والذي يُشار إليه غالبًا باسم “أبو علم الفطريات الحديث”، دور أساسي في هذا التحول.

وأسهمت أبحاث ويلسون الرائدة حول أنواع النمل وتأثيرها على النظم البيئية في تطوير مجال علم الأحياء الاجتماعي، الذي يدرس الأساس البيولوجي للسلوك الاجتماعي لدى الحيوانات.

هذا على المستوى الاجتماعي، أمّا على مستوى الابتكارات والحلول الهندسية، فقد أسهمت الأبحاث المستوحاة من النمل في ولادة العديد من الابتكارات.

النمل والعناكب.. شراسة الدفاع عن النفس

محاكاة النمل في تصميم أنظمة ووسائل النقل

أتقن النمل فن النقل إلى درجة تقترب من المعجزة، ودفع ذلك الخبراء إلى محاولة استنساخ التجربة في تصميم أنظمة النقل، للحصول على فوائد كثيرة منها:

1- تقليل التكلفة: من خلال دراسة ميدانية لمدة عامين على نمل اللحوم الأسترالية، جمع الباحثون من قسم الرياضيات في جامعة أوبسالا في السويد ثروة من البيانات حول مسارات النمل التي امتدت على مساحة واسعة.

وباستخدام هذه البيانات وإجراء عمليات محاكاة رقمية، كشفوا عن قاعدة أساسية تحكم سلوك النمل في بناء المسار، وهي الاتصال بأقرب عش متاح، وربما بشجرة يمكن العثور على الطعام فيها، إذا لم تكن بعيدة جدا.

ومن خلال تطبيق هذه الحكمة المستوحاة من النمل على الأنظمة التي صنعها الإنسان، حقق الباحثون في جامعة أوبسالا اكتشافات رائدة.

على سبيل المثال، عند بناء ضاحية جديدة، فإن ربطها بأقرب منطقة في المدينة يضمن أن تكون تكلفة شبكة الطاقة المطلوبة رخيصة نسبيا وفعالة على المدى الطويل.

تقول الدكتورة أريانا بوتينيلي، إحدى المشاركات في البحث “من خلال محاكاة إستراتيجية تقليل التكلفة المتبعة من قبل النمل، يمكننا إنشاء أنظمة نقل ليست فعالة من حيث التكلفة فحسب، ولكنها أيضا عالية الكفاءة ومرنة في مواجهة الاضطرابات”.

 

2- تقليل الانبعاثات عن طريق محاكاة سلوك النمل: يشتهر النمل بالعمل الجماعي والتنظيمي بطريقة تسمح لهم بحل المشكلات المعقدة بكفاءة وتحسين سلوكياتهم الحالية.

على سبيل المثال، عندما تكتشف نملة أفضل طريقة لفعل شيء ما، فإنها تحتفظ بسجل “لأفضل الممارسات” وتشارك تلك المعلومات مع زملائها من النمل، مما يؤدي إلى تحديث مستمر لأفضل الممارسات في جميع أنحاء المستعمرة بأكملها، تماما مثل خوارزميات الكمبيوتر.

بناءً على هذه الأفكار، استوحى الباحثون في جامعة أستون الإلهام من سلوك النمل وأنشؤوا خوارزميات تُعرف باسم “التكنولوجيا الفوقية الإرشادية”.

 ومن خلال تقليل عدد القرارات التي تتخذها الخوارزميات، تمكنوا من توسيع نطاق التكنولوجيا لحل مشكلات توجيه أسطول من الحافلات على مستوى المدينة، وكانت النتائج مذهلة.

وبهذهِ الطريقة تمكن الباحثون من تقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بمقدار 4.25 كيلوغرامات لكل شاحنة يوميا وتقليل انبعاثات أكسيد النيتروز بمقدار 98 غراما.

2- خوارزمية النمل: مع ظهور التجارة الإلكترونية والطلب المتزايد على التسليم السريع والفعال، تتعرض شركات الخدمات اللوجستية لضغوط هائلة لتحسين طرقها وتقليل أوقات التسليم.

في عام 1991 طور ماركو دوريجو خوارزمية (تحسين مستعمرة النمل) والتي يشار لها اختصارا بـ”ACO”،وهي خوارزمية رائدة أحدثت ثورة في الطريقة التي يتعامل بها الخبراء مع مشكلة شائعة تعرف بمشكلة البائع المتجول.

هذه المشكلة سهلة الشرح ولكن من الصعب حلها، لأنها تتضمن العثور على أقصر طريق ممكن يمكن للبائع أن يسلكه لزيارة مجموعة معينة من المدن والعودة إلى المدينة التي بدأ منها. إن إضافة المزيد من المدن إلى المعادلة يجعل من غير المجدي عمليا التعامل مع تقنيات الحوسبة التقليدية، مما يؤدي إلى تعقيد ينمو بشكل كبير.

النملة عندما تخرج بحثا عن طعام تسلك طريقا غير محدد مسبقا، وتترك على طول المسار أثرا لرائحة محددة يساعدها في معرفة طريق العودة، وإذا عثرت على بقايا طعام تضع رائحة أكثر قوة مما يجعل النمل يتجمع ويتجه لهذا الطريق، وهذا بالضبط ما تفعله هذه الخوارزمية، حيث يمكنها مساعدة الشركات في العثور على الطرق الأكثر كفاءة لمركبات التوصيل الخاصة بها، مما يقلل تكاليف الوقود ويقلل أوقات التسليم.

أنظمة رؤية للروبوتات مستوحاة من أدمغة النمل

صممت العديد من الشركات روبوتات بأشكال وأحجام مختلفة وظيفتها حصد الأعشاب الضارة والبحث عن الأماكن التي تحتاج لمبيد داخل المزارع.

لكن الصعوبة التي كانت تواجه تلك الروبوتات هي تحديد المسار والكشف خلال الحشائش الكثيفة أو ما يُعرف بالملاحة البصرية.

وفي جامعتي أدنبره في اسكتلندا، وشيفيلد في إنجلترا، يعالج الباحثون هذه المشكلة، وقالوا “لقد استوحينا الإلهام من الحشرات، مثل النمل، القادر على التعلم واتباع الطرق في بيئات طبيعية معقدة باستخدام أنظمة حسية وَعصبية”.

صمم الباحثون شبكة عصبية اصطناعية تحاكي أسلوب النمل، تسمح هذه الشبكة العصبية الاصطناعية للروبوتات بالتنقل عبر الطرق المعقدة في النباتات الكثيفة من خلال تحليل الصور وتذكر الطرق المثلى في الانتقال.

اختبر الباحثون نموذجهم العصبي في حقول غير مستوية وموحلة، وكانت النتائج مثيرة للإعجاب. إذ يمكن للروبوتات المجهزة بهذه التكنولوجيا التنقل بفعالية في البيئات التي بدت في السابق غير قابلة للتغلب عليها. وهذا يفتح آفاقا جديدة للزراعة، مما يسمح باستخدام أكثر كفاءة لموارد الأراضي والحد من استخدام الأسمدة الكيماوية والمبيدات الحشرية.

بناء السدود وخزانات المياه باتباع نموذج مستعمرات النمل

من ضمن الأمور التي أثارت دهشة المختصين، تصميم مستعمرات النمل المقاوم للزلازل والأعاصير، إضافة لنظام خزن الماء وأنفاق ترسيب الفضلات داخلها، وهو بالضبط ما حاول العلماء فهمه ومن ثم تقليده عبر إنشاء خوارزمية تعرف بـ”ميتايورستيك”.

اكتسبت هذه الخوارزمية اهتماما كبيرا في مجال إدارة الموارد المائية، نظرا لأن العديد من المشكلات في هذا المجال غير خطية ومعقدة وصعبة وتتطلب أيضا حلولا موثوقة.

ويهدف المطورون للخوارزمية إجراء مراجعة نقدية على وجه التحديد في مجال الهيدرولوجيا والهيدروجيولوجيا، والتي تشمل مجالات مثل عمليات تصميمات الخزانات والسدود، وأنظمة توزيع المياه، وإدارة طبقة المياه الجوفية الساحلية، ومراقبة المياه الجوفية على المدى الطويل، وتقدير المعلمات الهيدروليكية، و تصميم شبكات الصرف الصحي الحضرية.

روبوتات العمل الجماعي

في الآونة الأخيرة، استوحى باحثو جامعة هارفارد الإلهام من النمل لتصميم فريق من الروبوتات البسيطة نسبيا التي يمكنها العمل بشكل جماعي لأداء مهام معقدة باستخدام عدد قليل من الأوامر البرمجية.

يعتمد النمل بشكل أساسي على قرون الاستشعار الخاصة به للتفاعل مع البيئة ومع النمل الآخر، وهي عملية تسمى الاستشعار.

لاحظ الباحثون أن النمل يتجمع تلقائيا حول المناطق التي يتفاعلون فيها كثيرا. وبمجرد أن يبدأ عدد قليل من النمل في حفر نفق على سبيل المثال، تنضم مجاميع أخرى إليها بسرعة. وبمرور الوقت، استمرت عملية التنقيب في أحد هذه المواقع التي تم مراقبتها بشكل أسرع من المواقع الأخرى، وفي النهاية أتمّ النمل الحفر بسرعة مذهلة.

يطمح العلماء أن يكون بمقدور هذه الروبوتات العمل معا، تماما مثل النمل، لأداء مهام مثل مهام البحث والإنقاذ، ومراقبة البيئة، وحتى البناء في البيئات الصعبة.

روبوتات تتحمل أوزانا ثقيلة

أثر شكل النمل على تصميم الأجهزة المجهرية من خلال قدراته الرائعة على حمل الأحمال.

ويبحث العلماء عن طرق لإنشاء روبوتات صغيرة مستوحاة من النمل، قادرة على حمل أشياء تفوق وزنها عدة مرات، مع تطبيقات محتملة في الجراحة المجهرية، أو التجميع الدقيق، أو توصيل الأدوية داخل جسم الإنسان.

محاكاة مستعمرات النمل في تصميم أنظمة التبريد

أحد مفاتيح تحكم النمل الناجح في المناخ يكمن في قدرته على تنظيم تدفق الهواء داخل عشه. وتقوم العديد من أنواع النمل ببناء شبكات معقدة من الأنفاق والغرف، مصممة لتحقيق أقصى قدر من التهوية والحفاظ على درجات حرارة ثابتة.

تسمح الفتحات الموضوعة بشكل إستراتيجي على سطح العش بدخول الهواء النقي، بينما يتم طرد الهواء القديم من خلال فتحات أخرى، مما يخلق تدفقا مستمرا للهواء يساعد على تنظيم درجة حرارة العش ورطوبته.

هذه الفكرة جرى محاكاتها في تصميم مبنى مركز إيستجيت في هراري، زيمبابوي. ومن خلال محاكاة آليات تدفق الهواء التي يستخدمها النمل، يحقق مركز إيستجيت توفيرا في الطاقة يصل إلى 35% مقارنة بالمباني التقليدية.

نظام تحديد المواقع الخاص بالنمل

يستطيع النمل الصحراوي المشي لمسافة تصل إلى كيلومتر واحد في غضون 30 دقيقة، ويمكنه العودة إلى مدخل عشه دون التعرض لخطر الضياع، وأثناء التنقل يكون النمل الصحراوي قادرا على قياس اتجاهه من خلال الضوء السماوي، فعند دخول الضوء إلى الغلاف الجوي، يؤدي إلى اتخاذه استقطابا معينا، ويمكن للنمل استخدام هذا للحصول على اتجاهه.

وبعبارة أخرى، للرجوع إلى أعشاشه يحفظ النمل الصحراوي نوعا من اللقطات المألوفة، حتى يصل إلى موقع يشبه بصريا منزله، ويطلق الخبراء على هذا النظام “الملاحة القائمة على الألفة”.

على مدى العقود الأربعة الماضية صمم الباحثون في جامعة “إيكس مرسيليا” في فرنسا سلسلة من أجهزة الاستشعار مستوحاة من رؤية النمل، وطبقوها على روبوت يدعى ”أنت بوت”.

 و”أنت بوت”، روبوت مستقل ذو نظام ملاحة يعتمد على الحواس الفريدة وقدرات استكشاف المسارات مثل النمل الصحراوي.

ومن خلال الشراكة مع المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي تم تجهيز الروبوت بمستشعرات الأشعة فوق البنفسجية القادرة على اكتشاف نطاقات من الضوء المستقطب، الذي يستخدمه النمل الصحراوي للتنقل مثل “البوصلة السماوية”.

وكإجراء إضافي، يوقم ”أنت بوت” بحساب خطواته لتحديد معدل حركته بالنسبة إلى الشمس، وتساعد هذه الجوانب المدمجة في تحديد موقعه بدقة تصل إلى سنتيمتر واحد لكل 14 مترا، قارن ذلك بدقة نحو 5 أمتار لنظام ”جي بي إس” المدني، ويعتقد الباحثون أن نظامه يمكن استخدامه في الطائرات من دون طيار.

”أنت بوت” ليس الروبوت الوحيد الذي يستخدم ميزة الملاحة المستوحاة من نمل الصحراء، حيث طور الباحثون في جامعة “ساسكس” نظاما يمكن أن يعمل من دون نظام تحديد المواقع العالمي “جي بي إس”، بل باستخدام خوارزميات تحاكي دماغ النمل الصحراوي.

كان لهذه الدراسة تطبيقات عدة، حيث استخدم باحثون من شركة نفيديا الأميركية المختصة ببرامج الرسومات أسلوب “التنقل المرئي” على طائرات من دون طيّار، وجعلها تطير لمسافات طويلة بشكل مستقل عبر المناطق المشجرة، ويتوقع الباحثون جعل هذه الخاصية مفيدة جدا للبحث عن المفقودين في المناطق الصعبة وعند انقطاع نظام تحديد المواقع العالمي.

كذلك قام طلاب من جامعة “يوتا” في الولايات المتحدة الأميركية بتطوير نظام يتضمن مجموعة من المستشعرات المرفقة بأحذية المستخدمين يمكنها تقدير موقع مرتديها بدقة تبلغ نحو 5 أمتار على غرار “جي بي إس”، ولكن دون الحاجة إلى الأقمار الصناعية.

مثل هذا النظام يمكن أن يساعد الجنود أو المستكشفين على توجيه أنفسهم عندما يكونون في عمق الأراضي غير المألوفة.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version