بالتوازي مع انشغال العالم بسقوط نظام الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، ودخول قوات المعارضة إلى مدينة دمشق في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الجاري، وما رافق ذلك من حديث حول أسباب انهيار النظام وتفكك قواته، شكلت قضية السجون والمعتقلات التي كُشف عنها صدمة قاسية للضمير الإنساني بشكل عام.

كان سجن صيدنايا قرب العاصمة دمشق، الذي ضم نحو 20 ألفا من المعتقلين السياسيين، أبرز تلك المعتقلات وأكثرها وحشية في تاريخ النظام حتى أنه سُمي بـ”المسلخ البشري”.

وحسب منظمة العفو الدولية، فقد أعدم معظم هؤلاء السجناء أو ماتوا بسبب الإهمال وتردي الوضع الصحي.

ووفقا لمراقبين، فإن ممارسات النظام الوحشية ضد المعتقلين سواء من حيث أساليب التعذيب والقتل والإخفاء القسري، أو طريقة بناء المعتقلات، شابهت إلى حد كبير الأساليب التي اتبعها النازيون في ألمانيا ضد معارضيهم بعد الحرب العالمية الثانية، مما يطرح أسئلة كثيرة عن أسباب هذا التشابه، أو عن حقيقة وجود صلة بين الطرفين.

ضباط نازيون بسوريا

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، فرَّ عدد من كبار الضباط والمسؤولين النازيين من ألمانيا خشية الوقوع في الأسر بأيدي الحلفاء، والتعرّض للمحاكمة كما جرى مع القيادة النازية الألمانية، وكان من بين هؤلاء الفارين خبراء متميزون في مجالات مختلفة فقاموا ببيع تلك الخبرات إلى البلدان التي قبلت إيواءهم والسماح لهم بالإقامة على أراضيها.

أبرز هؤلاء الضباط وأكثرهم صلة بالنظام النازي وقتها كان ألويس برونر، الذي كان نائبا لرئيس قوات الحماية الخاصة النازية وهو من أهم العاملين مع أدولف أيشمان، الذي يعتبر المسؤول عن تشريد وترحيل معارضي النازية في ألمانيا ومن بينهم اليهود.

وصل برونر إلى سوريا عام 1954بعد تنقله متخفيا في عدة بلدان، منها الولايات المتحدة ومصر، إذ أفادت كثير من التقارير الصحفية بأنه كشف عن هويته الحقيقية ووضع نفسه في خدمة المخابرات السورية.

والثابت في هذه الفترة -حسبما أفاد به الصحفي كلود بالازولي صاحب كتاب “سوريا: الحلم والقطيعة”- أنه كانت له علاقات مع عبد الحميد السراج، رجل المخابرات الدموي في زمن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وفي الأعوام التالية كان يقوم بتدريب عدد من الضباط السوريين، على تقنيات مكافحة التجسس والاستجواب.

وشارك في دوراته التدريبية رؤساء المخابرات السورية ذوي السمعة السيئة، مثل الجنرال علي حيدر، الذي عمل 26 عاما رئيسا للقوات الخاصة السورية، وكذلك علي دوبا، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، بالإضافة إلى مصطفى طلاس، وزير دفاع نظام الأسد والمسؤول عن سحق انتفاضة الإخوان المسلمين في حماة عام 1982، وذلك وفق ما أفادت به 3 مصادر أمنية سورية في تقرير لمجلة “ريفو21” الفرنسية نشرته عام 2017.

ميدان - صورة كفتارو وحافظ الأسد

برونر وحافظ الأسد

كان 1966 هو العام المفصلي عندما حدث اللقاء الحقيقي بين برونر والدولة السورية، عندما كان حافظ الأسد وزيرا للدفاع، وذلك بعد أن اكتشف الأميركيون أمر وجوده في سوريا وحاولوا اغتياله في دمشق عن طريق رسالة بريدية مفخخة فَقَدَ على إثرها إحدى عينيه، وعندها فهم برونر أن أمره انكشف.

واستفاد حافظ الأسد من خدمات الخبير النازي المخضرم الذي قال عنه رئيس جهاز “الغيستابو” أدولف آيخمان في مذكراته: “إنه من أفضل الرجال”.

ومقابل تأمين سلامته بعد انكشاف أمره، عمل برونر مستشارا أمنيا غير رسمي لحافظ الأسد الذي كان في تلك الفترة يقضي فيها على المناهضين له سواء من البعثيين أو غيرهم بالتصفيات والاغتيالات.

وبعدها بسنوات، استولى حافظ الأسد على السلطة رسميا بانقلاب عسكري سماه “الحركة التصحيحية”، وكان الضابط النازي ممن ساهموا في بناء منظومة الأسد المخابراتية الرهيبة، بما فيها من أجهزة وفروع ومناهج قمع ومراقبة.

وأكد ضابط في المخابرات الفرنسية -كانت له علاقات في دمشق في الثمانينيات- أن برونر كان يعمل مستشارا مقربا لدى الأسد.

ويقول ديدييه إيبلباوم، كاتب سيرة حياة الضابط النازي في كتابه “ألويس برونر– كراهية لا يمكن اختزالها”، إن برونر “قدَّم خدمات قيمة للدكتاتور حافظ الأسد، الذي حكم سوريا منذ عام 1971، وقد كان يعرف خير معرفة كيف يحصل على المعلومات ويستخدمها، وكيف يمكن التلاعب بالناس، وما هو المهم في نشاطات أجهزة الاستخبارات”.

من ناحيته، يذكر الكاتب والصحفي إبراهيم الجبين صاحب رواية “عين الشرق”، الذي اطلع على كثير من المصادر التي تحدثت عن علاقة برونر مع الأسد، أن الأخير تعرف إلى برونر عن طريق محمد الخولي الذي كان نائبا للأسد في قيادة القوى الجوية آنذاك.

المخابرات الجوية

وحسب حديث الجبين لموقع لجزيرة نت، فقد كلف حافظ الأسد نائبه محمد الخولي الذي كان معروفا بعلاقاته مع الألمان وكان قد خضع للتدريب في ألمانيا الشرقية وعلى جهاز “الشتازي” الألماني بتأسيس “جهاز المخابرات الجوية”، وهو الجهاز الذي أشرف على تأسيس بقية أفرع المخابرات السورية واختيار مواقعها وبنيتها الهيكلية.

ومنذ ذلك التاريخ، بات ألويس برونر المستشار الأمني المقرّب لكل من محمد الخولي وحافظ الأسد.

وبفضل معرفته بأجهزة المخابرات السورية، تمكن برونر من البقاء في أعلى دوائر المؤسسة السياسية، كما قال الصحفي الاستقصائي الهادي عويج لمحطة إذاعة فرانس إنتر عام 2017: “كانت الصفقة: الحماية مقابل المعرفة النازية. قام ألويس برونر بتدريب المخابرات النازية، وتدريب الدائرة الأولى حول حافظ الأسد”.

وكان الهادي عويج سلَّط الضوء على الأعوام الأخيرة من حياة ألويس برونر وهو سجين لدى نظام الأسد حتى وفاته المفترضة عام 2002.

وكتب هادي عويج: “بمساعدة ألويس برونر، أنشأ الرئيس السوري الجديد جهازا قمعيا ذا كفاءة نادرة، كان هذا الجهاز معقدا، وقُسّم إلى فروع عديدة تراقب وتتجسس على بعضها بعضا، وعمل على أساس التقسيم المطلق، وكان هذا الجهاز مبنيا على مبدأ: الإمساك بالبلاد باستخدام رعب لا حدود له”.

رعب بخبرات نازية

مع تناقل صور المعتقلين الذين تم إطلاق سراحهم من سجون النظام في أثناء عملية “ردع العدوان” وما بدا عليهم من آثار تعذيب نفسي وجسدي، إضافة إلى شكل السجون وما تحويه من آلات وطرق للتعذيب، ربط كثير من المراقبين بين تعسف “الغيستابو” (جهاز المخابرات الألماني أيام هتلر) وما تمارسه قوات النظام السوري اليوم بحق المواطنين السوريين.

كان الجهاز النازي يحتجز الأشخاص من دون دعوى قضائية، ويقوم بتعذيب المعتقلين قسرا حتى الموت، بالإضافة إلى بقاء المساجين في المعتقلات لسنوات طويلة من دون محاكمة، ومن دون أن يعرفوا المصير الذي ينتظرهم.

وتشير التقارير الموثقة من قبل منظمات حقوق الإنسان، مثل منظمة العفو الدولية “أمنستي” و”هيومن رايتس ووتش”، إلى ممارسات تعذيب منهجية في السجون السورية، بما في ذلك سجن تدمر وسجن صيدنايا، تشمل الضرب الوحشي، والعزل المطول، والاعتداء الجنسي، وتهديد المعتقلين بأفراد أسرهم وغيرها.

وما يجعل هذه الأساليب أكثر إثارة للرعب هو التشابه الواضح بين ممارسات التعذيب في سجون النظام السوري والأساليب النازية، ففي سجن تدمر، وثقت الشهادات استخدام العقوبات الجماعية والتعذيب الجسدي الممنهج، وهي أساليب تعيد إلى الأذهان معسكرات الاعتقال النازية، وتم توثيق المقابر الجماعية التي تُستخدم للتخلص من الجثث، وأشارت شهادات الناجين إلى استخدام الأحماض الكيميائية لتسريع تآكل الجثث وإخفاء الأدلة.

وفي دليل على استخدام نظام الأسد للأساليب النازية ضد المعتقلين، تمكن مقارنة الصور التي سربها “قيصر” من داخل معتقلات الأسد، ومقارنتها بصور الأوشفيز والمعتقلات الألمانية النازية التي ضمت كل من عارض النازيين، سواء كانوا من الألمان المسيحيين الشيوعيين أو من الأوروبيين الديمقراطيين أو الغجر أو غيرهم.

إلى ذلك، اعتمد نظام الأسد (حافظ وبشار) أيضا على أساليب مشابهة لتلك التي استخدمتها ألمانيا الشرقية في كتابة التقارير ضد الأفراد المُشتبه في معارضتهم للنظام.

كانت هذه التقارير غالبا ما تُجمع من مواطنين عاديين، مثل سائقي سيارات الأجرة وبائعي الطعام الذين أُطلق عليهم لقب “كتبَة التقارير”، وكانت تتسم بدقة مذهلة في التفاصيل التي تضمنت معلومات عن أدق تفاصيل حياتهم.

أساليب وحشية

أما أكثر الأساليب الوحشية التي نقلها برونر إلى سوريا في عهد حافظ الأسد، فكان ما بات يُعرف بـ”الكرسي الألماني”، إذ يتم تقييد يدي المعتقل وقدميه تحت كرسي معدني مرن يمكن ثنيه بعد ذلك للضغط على الرقبة والعمود الفقري، مما يؤدي إلى الشلل أو الموت.

وفي هذا السياق، يؤكد الكاتب الجبين أن برونر نقل خبراته في بناء وتجهيز مقرات أجهزة الأمن النازية كاملة إلى السجون والمعتقلات السورية، ومن بينها وأكثرها شهرة الكرسي الألماني الذي ارتبط باسمه، بالإضافة إلى بنية المعتقل وحجم الزنازين، وحتى وجود المحرقة التي عثر عليها في سجن صيدنايا للتخلص من الجثث.

وقد أوضح محامي الدفاع أندرياس شولتس هذه الطريقة خلال محاكمة مجرمي الحرب السوريين في كوبلنز في ألمانيا في ديسمبر/كانون الأول 2021، وقال إنه من المرجح أن يكون برونر هو المسؤول عن انتشار هذا الأسلوب.

أما في سجن صيدنايا، فكشفت تقارير -لم يتسن التأكد من صحتها- عما يسمى “غرفة المكبس”، وهي مكان مصمم لإعدام العشرات دفعة واحدة باستخدام الضغط المكاني، وهي طريقة استخدمها النازيون ضد معارضيهم في ألمانيا، ونفى وجودها رئيس رابطة معتقلي صيدنايا دياب سرية في تقرير نشرته الجزيرة نت.

وحسب تقرير من منظمة العفو الدولية “أمنستي إنترناشونال”، فقد تم إعدام ما يصل إلى 15 ألف شخص من دون محاكمات قضائية داخل سجن صيدنايا في الفترة بين سبتمبر/أيلول 2011 وديسمبر/كانون الأول 2015.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version