قبل الحرب التي تدمر قطاع غزة منذ أكثر من عام، كان السعي وراء مهنة علمية في الأراضي الفلسطينية محفوفا بالمخاطر، واليوم دمرت إسرائيل المدارس واضطر الطلاب إلى مواصلة دراستهم عن بُعد أو إيقافها تماما، وعمل الأطباء في ظروف متدهورة على نحو متزايد، وشعر الفلسطينيون، حتى خارج المنطقة بآثار هذا الدمار.

وفي هذا السياق، تحدثت صحيفة نيويورك تايمز -في تقرير بقلم كاترينا ميلر- إلى 4 فلسطينيين يعيشون في غزة والضفة الغربية والخارج حول هذا الصراع الذي يؤثر على أبحاثهم العلمية وعملهم الطبي.

وفاء خاطر (49 عاما)

بدأت الصحيفة بمقابلة الدكتورة وفاء خاطر التي نشأت في الضفة الغربية، وانتقلت إلى النرويج لمتابعة درجة الدكتوراه في الفيزياء في جامعة بيرغن، وقد أتيحت لها فرصة البقاء في النرويج بشكل دائم، لكنها عادت إلى الضفة الغربية للتدريس أثناء الانتفاضة الفلسطينية الثانية ضد الاحتلال الإسرائيلي، تقول “قال لي جميع زملائي النرويجيين في ذلك الوقت، هل أنت مجنونة؟ فقلت لهم هذا هو الوطن وأنا في مهمة”.

وتقول الأستاذة في جامعة بيرزيت الآن، وهي واحدة من أوائل الفلسطينيين الذين مارسوا مهنة دراسة طبيعة وسلوك الجسيمات دون الذرية، إنها سعت إلى بناء شبكة في غياب مجتمع بحثي في الضفة الغربية المحتلة، ودعت زملاء أوروبيين للتحدث في جامعات الضفة، ودفعت طلاب الفيزياء الفلسطينيين لحضور برامج بحثية صيفية في الخارج.

لا فرصة للفيزياء التجريبية

وإذا كان البحث النظري يمكن أن يزدهر في الضفة الغربية، فإن “الفيزياء التجريبية ليست لها أي فرصة تقريبا” كما تقول الأستاذة، موضحة أن الجامعات تكافح لدفع ثمن المعدات والبنية الأساسية للمختبرات، وتعتمد على التبرعات، حتى إن مرصد بيرزيت، تم تمويله من قبل رامز حكيم، وهو رجل أعمال فلسطيني أميركي.

وحتى بعد تأمين التمويل، يبقى من الصعب استيراد الأدوات التجريبية إلى الضفة الغربية وغزة، لأن بعض المعدات اللازمة للبحث يمكن استخدامها أيضا لأغراض عسكرية، وتصنف إسرائيل مثل هذه السلع على أنها ذات “استخدام مزدوج” يتطلب إذنا خاصا للمدنيين في الأراضي الفلسطينية لشرائها.

وبعد 7 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، بدأت وفاء خاطر وأعضاء هيئة التدريس في جامعتها التدريس عن بعد، لأن زيادة نقاط التفتيش في الضفة الغربية، نتيجة للوجود العسكري الإسرائيلي المتزايد بعد هجوم حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، جعلت من الصعب على الطلاب والأساتذة حضور الفصول الدراسية بدنيا.

أسيد السر (32 عاما)

أكمل الدكتور أسيد السر، أخصائي الجراحة العامة والباحث المقيم في تكساس، كلية الطب في غزة عام 2016، ودرس في جامعة أكسفورد قبل أن ينتقل إلى جامعة هارفارد عام 2019 لإجراء بحث حول جراحة الصدمات الطارئة.

وقال السر إن الدراسة في أوروبا والولايات المتحدة تختلف عما هي عليه في غزة بسبب الوصول غير المحدود للكهرباء والمياه والإنترنت والسفر غير المقيد.

اختار والدا السر غزة مكانا للعيش حتى يتمكن هو وإخوته من متابعة دراستهم، واشتروا مولدا للكهرباء، وإذا نفد الغاز، كانوا يعتمدون على الألواح الشمسية والشموع والبطاريات.

تعلم المثابرة من العيش بغزة

وقال السر إن مجموعات البحث الكبيرة نادرة في غزة، بسبب الموارد المحدودة، وإن الدراسة في الخارج توفر المزيد من الفرص، ولكنها تحتاج التقدم بطلبات للحصول على تصاريح من الحكومات في إسرائيل ومصر والأردن وغزة، وهي عملية قد تستغرق شهورا، ولذلك “ترى الكثير من فقدان الأمل في غزة”.

واحتاج السر إلى 3 محاولات للحصول على القبول في أكسفورد، وتقدم بطلب للحصول على ما يقرب من 20 منحة دراسية وفاز بواحدة، واستمر في التقديم مع هارفارد، مشيرا إلى أن هذه المثابرة شيء تعلمه من العيش في غزة.

كان الدكتور السر في تكساس يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لكن عائلته كانت في منزلها في غزة بالقرب من مستشفى الشفاء، وقد داهمت إسرائيل مستشفى الشفاء بزعم أنه مركز قيادة سري لحماس، ولم يتمكن الدكتور من الاتصال بوالدته أو إخوته لساعات، وقال “كنت خائفا حقا. شعرت أنني سأفقد عائلتي”، وبعدها انتقلت عائلته إلى الجنوب، ودُمرت منازلهم في غزة، ولكنه واصل تدريبه الطبي في تكساس.

ضحى البرغوثي (25 عاما)

درست الدكتورة ضحى البرغوثي، وهي طبيبة عمومية في الضفة الغربية، لمدة 6 سنوات في جامعة القدس وأنهت عامها التدريبي، أو التدريب بعد التخرج بمستشفى المقاصد بالقدس، وفي أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، قبل أسبوع واحد من اندلاع الحرب.

وبعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 داهم جنود إسرائيليون المستشفى واعتقلوا مرضى من غزة وأقاربهم، وقالت الشرطة الإسرائيلية إنها اعتقلت حفنة من السكان من غزة بتهمة “الاختباء والنوم” في مستشفى المقاصد دون دخول بشكل رسمي.

وتقول ضحى البرغوثي “كان مستشفى المقاصد في القدس، حيث تدربت، على بُعد بضع دقائق سيرا على الأقدام من منزلنا، ولكن حتى قبل الحرب، كان عليّ أن أغادر مبكرا لساعات للتنقل عبر نقاط التفتيش المطلوبة للوصول إلى العمل في الوقت المحدد”.

عالم فيزياء فلكية

في أكتوبر/تشرين الأول الماضي اعتُقل عماد، والد الدكتورة البرغوثي، وهو عالم فيزياء فلكية في جامعة القدس، ووُضع رهن الاعتقال الإداري، وقد كانت السلطات الإسرائيلية بعد اعتقاله الأول عام 2015، قد منعته من مغادرة الضفة الغربية، وهو ما قال إنه حدّ من فرصه في التعاون العلمي.

وفي بيان لصحيفة “نيويورك تايمز”، قال الجيش الإسرائيلي إن عماد البرغوثي اعتقل بسبب شكوك في “العضوية والنشاط في جمعية غير قانونية والتحريض والمشاركة في أنشطة تعرض الأمن الإقليمي للخطر”، وقد صرح عالم الفيزياء الفلكية بأنه ليس منتميا ولا مؤيدا لحماس، وقالت ابنته ضحى إن “هذا الاتهام يؤلم قلبي”.

وبعد 6 أشهر من الاعتقال، أطلق سراح والد ضحى البرغوثي في “ظروف صحية مروعة”، كما قالت، وأضافت “لا أتمنى أن يحدث هذا لأعدائي، أو لأي شخص آخر. والدي رجل عاطفي للغاية، لكن يمكنك أن تدرك من عينيه أن شيئا ما قد تغير”.

رامي مرجان (50 عاما)

وصف رامي مرجان، المتخصص في الكيمياء العضوية بالجامعة الإسلامية في غزة، مسيرته المهنية بأنها طريق مليء بالعقبات، حيث قضى سنوات في محاولة إنشاء مجموعة بحثية وقليل من الأدوات العلمية والمواد الكيميائية التي يمكن استخدامها لإجراء تجارب متطورة، وكتب في رسالة نصية لصحيفة نيويورك تايمز “ليست لدينا بنية تحتية للبحث”.

يركز الدكتور مرجان على إنشاء مركّبات جديدة ذات تطبيقات محتملة في الأدوية المضادة للبكتيريا والفطريات والسرطان، وهو يستخدم عملية التخليق متعدد الخطوات، وهي تتطلب مذيبات وأدوات، العديد منها يعتبر معدات ذات استخدام مزدوج من قبل إسرائيل، ولذلك هو وزملاؤه غير قادرين على الحصول عليها.

توقف عن التدريس والبحث

وقال مرجان “نحن نفترض فقط أننا صنعنا المركّبات اللازمة”، وعند اكتمال العملية أرسل فريقه خارج غزة لتحديد ما إذا كانت ناجحة، وقال “هذا كابوس حقا، لأنه يستغرق الكثير من الوقت والجهد”.

وحصل مرجان الذي تمكن من نشر بعض أعماله في المجلات الأكاديمية، على درجة الدكتوراه من جامعة مانشستر عام 2004، ثم عاد إلى غزة، وقال “أردت نقل الخبرة والمعرفة إلى شعبي”، ولكن الغارات الجوية الإسرائيلية دمرت الجامعة الإسلامية في غزة بحجة أنها معسكر تدريب لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، ومنذ ذلك الحين توقف مرجان عن التدريس والبحث.

وأجبر العنف مرجان على إخلاء منزله في مدينة غزة والانتقال إلى دير البلح، واعترف بأن قراره بالعودة إلى قطاع غزة منعه من تحقيق أحلامه في مهنة علمية، لكنه لم يندم، وقال “غزة هي أجمل مكان. جزء صغير من وطني”.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version