تالمست نواحي إمينتانوت/ مراكش ـ لم يكن صباح أمس الخميس كأي صباح من أيام ما بعد “زلزال الحوز”، حيث تسرع السيدة الستينية فاطنة أمنتاك الخطى إلى جانب زوجة ابنها الشابة خديجة، لتقديم الطعام للزوار والجيران، وهو ما يطلق عليه السكان اسم “المعروف”.

منذ اهتزاز الأرض قبل ثلاثة أسابيع، لا حديث هنا في دوار تاهالا في ضواحي مراكش، إلا عن تلك الليلة المرعبة التي ظنها الناس ساعة قيامة، كما تقول السيدة الستينية للجزيرة نت.

“لكن اليوم يوم عيد، وهو مرتبط بسيد الخلق محمد -صلى الله عليه وسلم-، أتانا مسرعا ليخفف بعض آلامنا، ويدخل البهجة على قلوب الناس وأطفالهم”، تضيف فاطنة وبريق أمل ظاهر يشع من عينيها.

سعادة

بينما تواصل فاطنة وخديجة إعداد الطعام المكون من دقيق الذرة الصافي، لا يخفي زوجها محمد بوروجو سعادته بما تفعله المرأتان المجدتان، يقدم لضيفه وجاره محماد بن الشافعي -الذي أصبح بلا مأوى- عسل النحل الشهي، وكأس شاي وفواكه جافة وأملو (طعام يصنع من اللوز وزيت أرغان)، متناسيا حديثا بدآه عما خلّفه الزلزال من ضحايا في النفوس والبنيان.

يقول المواطن التسعيني الذي خبر المكان والزمان، “في موسم يوم المولد، يظهر فرح الجميع، وتصل إلى تالمست (قرية بها مدرسة عتيقة لتحفيظ القرآن الكريم بين إمينتانوت وأكادير جنوب المغرب)، أعداد كبيرة من الناس مع أطفالهم، بعضهم يقطعون مسافات مشيا، وبعضهم يأتي من مدن بعيدة، للتزاور ولقاء الأحباب”.

ويضيف للجزيرة نت، ما تفعله السيدة فاطنة جزء يسير مما يقدم عليه الناس الكرماء هنا، بعضهم يهدي المال، وآخرون يلجؤون إلى الذبائح، تطعم النساء اللحوم للناس، تقربا إلى الله بهذه المناسبة العظيمة”.

أطفال فرحون بالعيد

حلوى

غير بعيد عن منزل السيدة فاطنة، تتراءى مئذنة المدرسة العتيقة في تالمست شامخة، لم ينل منها الزلزال شيئا غير شقوق طفيفة، وتحول محيطها إلى سوق ممتدة الأطراف يتجوّل فيها الناس بثيابهم النظيفة، بينما يلهو الأطفال فرحين بلعبهم الجديدة.

لا شيء هنا يعلو فوق صوت الحلواني، وهو يدعو الناس إلى “حلوى المولد” الملونة بألوان زاهية، التي أعدها بالسكر المخلوط بالزبيب والفول السوداني وعطر الورد.

يقول السيد محمد أساور للجزيرة نت، إن “الحلوى، أهم ما في الموسم، لا يضاهيها غير اقتناء الناس للفواكه الجافة التي تقدم للضيوف في مثل هذه المناسبات، إضافة إلى حرص النساء على شراء هدايا يسيرة من الفضة لبناتهن الصغيرات”.

على مرمى حجر من المدرسة العتيقة، وعلى ربوة صغيرة، صادفت الجزيرة نت مبادرة لجمعية مدنية قادمة من مدينة آسفي على بعد أكثر من 200 كلم، تهدف إلى مشاركة الناس آلامهم وأفراحهم في الوقت ذاته، كما يقول الناشط المدني عبد السلام بنهنية.

وفي حديثه للجزيرة نت، يلاحظ المتحدث ذاته كيف أن الناس، بقوا منتظرين دورهم بعيدا عن المساعدات التي وضعت بعناية في أرض عارية، دون أن يهبوا للازدحام عليها، مؤكدا أنها “نخوة المواطن المغربي الذي تأبى نفسه أن يمد يده إلى حاجة غيره”.

مبادرة أدخلت الفرحة -أيضا- على الصغار بتوزيع الألعاب، التي تعدّ من رموز الاحتفال في هذه المنطقة النائية، وهو “معروف” من نوع آخر، كما يحب أن يسميه عبد السلام.

حكاية المعروف

لكن ما أصل الحكاية، كما يتساءل بعض الناس، وهو يرى عادة “المعروف” التي يتمسك بها أهل تالمست، كما يفعل سكان مناطق كثيرة بجبال الأطلس؟

يشرح الأكاديمي المغربي رشيد شحمي، أن “المعروف” صدقة تأتي من فرد أو مجموعة، تكون عبارة عن ذرة مطحونة أو أرز أو معكرونة، تعدّها النساء وتقدم للناس خاصة للصغار والرعاة وعابري السبيل، طلبا للعون من الله تعالى، واعتقادا أن استجابته -سبحانه- تكون سريعة.

ويضيف رشيد للجزيرة نت “ليس في يوم المولد فقط يقدم طعام المعروف، فهو عادة مرتبطة -كذلك- بمكان ذي قدسية، تقام من أجل الصلح بين الناس أو طلب المطر، أو في موسمي الزراعة والحصاد والجني، أو تهيئ الساقية، أو تقسيم نصيب الماء، ذلك أن تقديم الطعام دليل على الحب والتضامن والوفاء والتعاون”.

ويوضح الباحث في التاريخ الاجتماعي أن هذه العادة ظهرت مع انتشار الزوايا في المغرب في القرن السادس عشر، خاصة في جبال الأطلس، التي حملت في طياتها حركة ثقافية وتوعوية للمجتمع مرتبطة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بتحبيب الدين للناس عن طريق الإحسان لهم وليس بالسيف، ومن ذلك أخذت هذه العادة تسميتها.

تارودانت كذلك

بدورها دأبت عائشة إمهراسي بمدينة تارودانت (268 كيلومترا جنوبي مراكش) على تنظيم احتفال سنوي خلال يوم المولد. وتقول هذه السيدة، وهي رئيسة جمعية مدنية، إن “الزلزال يفرض الاكتفاء بالاحتفال في الحد الأدنى، عبر مدائح نبوية في الصباح، وإعداد “المعروف” لوجبة الغذاء المكون من الكسكس تعدّه النساء، وإخراج “السلكة” (قراءة جماعية كاملة للقرآن الكريم)، تتبعها أدعية ترحما على من فقدوا في الزلزال”.

وفي حديثها للجزيرة نت، قالت عائشة، إنها ورثت إقامة “المعروف” كل سنة عن والدتها المتوفية، وتضيف أنه مناسبة للتزاور بين الأهل والأحباب والأصدقاء، بل منهم من يأتي من مدن أخرى ومن الخارج من أجل ذلك، ومن الناس من يزين منزله باللون الأبيض، ويضيف إلى جدرانها رسومات معبرة.

بينما يشير الأكاديمي رشيد شحمي إلى أن هذا الأكل الذي يحرص بعض الناس على تقديمه عند المجاري المائية، يتبعه دعاء جماعي للرجال، أو يطلب ذلك من السيدات المسنات في الجماعة، من أجل جلب خير أو دفع ضرر.

أيام تمضي

في المناطق التي ضربها الزلزال، لا تزال الأطلال شاهدة على ما دُمّر مساء الجمعة 8 سبتمبر/أيلول الجاري، في ثوان معدودة.

“تحت كل سقف وتحت كل خيمة، تقبع حكاية تنتظر من يرويها الآن وغدا، حكاية يوم ذهل كل واحد عمن سواه، بينما ربط بعض المنكوبين من جأشهم، ليبحثوا عن أحبتهم تحت الأنقاض”، كما تحكي عائشة.

“ليست البيوت وحدها ما أزيل من فوق الأرض، بل ذهبت أرواح الأحبة وضحكاتهم وروائحهم، ومسحت من كل ركن آثاره وذكرياته وعبقه”، تضيف عائشة وهي تنادي على طفلين يمران بجانبها لتذوق طعامها الذي تفوح منه رائحة سمن شهية.

هي الأيام ماضية كما شاء لها الله وقدَّر، تترك أثرا وتمسح آخر، لا تلتفت وراءها، لا يكبح مضيها كابح ولا يسرع وتيرتها دافع، كما يقول الباحث رشيد، لكن ذلك لا يمنع الناس من أن يسرقوا من العمر لحظات، كي يفرحوا ويتحابوا ويتعاونوا، في انتظار الفرج الكبير، والعودة إلى الحياة الطبيعية بين جبال ألِفها الناس وألفتهم.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version