تواجه الدول التي تصبح مسرحا لصراعات سياسية وعسكرية تحديات جمة، أهمها تعويض غياب الدولة ومؤسساتها ويصبح الأمر بالغ الصعوبة مع غياب تجارب العمل المدني السابقة، إذ يجد النخب والقيادات المجتمعية أنفسهم مضطرين للعمل في ظروف استثنائية، ومواجهة تحديات داخلية وخارجية تجبرهم على إنتاج هياكل وأجسام قادرة على حل المشاكل أو إدارة شؤونهم أو تمثيل المجموع في بعض المحافل المحلية والإقليمية والدولية.

لقد فجرت تجارب بعد الربيع العربي إحساس الحشود بإمكانياتها وأدوارها ومساحات تأثيرها، وبرز دور المجتمع المدني مجددا بوصفه فاعلا مؤثرا في الحدث وموجها له في بعض الأحيان، لا سيما في بعض الدول التي تحولت فيها الثورات إلى صراع عسكري، فتقدمت بعض الكيانات المدنية الأصيلة أو الناشئة وساهمت بأدوار واضحة، سياسية كانت أم إنسانية أم اعتبارية، وكانت الحالة السورية نموذجا واضحا لعودة هادرة للمجتمع المدني بمؤسساته الأهلية والتنظيمية بعد عقود من الجمود والإقصاء.

يحاول كتاب “من الغيبوبة إلى المارثون” الصادر عن مركز الحوار السوري، الذي عملت عليه الباحثة كندة حواصلي على مدى عامين، تتبع تجربة ما سمّي “العمل الجمعي” في الكيانات والتجمعات السورية بعد عام 2011، كالشبكات والاتحادات والنقابات والائتلافات نموذجا، في محاولة لرصد التجربة وتحليلها، حيث تشير مقدمة الكتاب إلى كونه محاولة لتفكيك واختبار بعض الأسئلة الشائعة المنتشرة بين جمهور السوريين حول أنهم غير قادرين على العمل مع بعضهم، واختبار صحة هذه الأسئلة ومعرفة الأسباب وراءها.

تأتي أهمية هذا الكتاب من كونه محاولة بحثية تحليلية لتقيّم مثل هذه التجارب الجمعية السورية الناشئة بإيجابيها وسلبياتها، ومحاولة إثارة الانتباه تجاه موضوع لم يأخذ الاهتمام المطلوب بعد، وتسلّط الضوء على الإشكاليات التي يمكن مواجهتها في هذا النوع من العمل المدني، بهدف التعمق في فهم المشكلة وتحليلها والإشارة إلى مكامن الضعف واقتراح الحلول المناسبة، إلى جانب كونه وسيلة لنشر ثقافة العمل الجمعي الصحيح والتعريف بالأسس النظرية اللازمة لإدارة مثل هذه الكيانات وتقييم عملها وإنجازها، وتصويب أدائها وتطوير النموذج.

بين الجماعة والفريق والكيان الجمعي

بدأ الكتاب فصله الأول بتمهيد معرفي ومحاولة لضبط المصطلحات التي ستستخدم لاحقا، وبناء وعي القارئ ببعض أنماط العمل الجماعي التي يمكن أن تختلط في شكلها وتختلف في تأثيرها، ويقوم هذا الفصل بتفكيك الاختلاف بين 3 أنماط ومستويات من عمل المجموعات التي نلاحظها في حياتنا ومجتمعاتنا كـ”المجموعة /الجماعة” و”فرق العمل” و”الكيان الجمعي”، والتي تندرج جميعا تحت مظلة العمل الجماعي، موضحا أن الاختلاف بين الأنماط الثلاثة يعود إلى شكل العلاقات الداخلية بين المجموع وأفراده وشكلها بين المجموع مع المستويات القيادية، خاصة في ما يتعلق بآلية اتخاذ القرار ومدى مشاركة المجموع في هذه العملية.

حصاد الثورة السورية

يقدم الكتاب تعريفا للعمل الجمعي قيد الدراسة باعتباره عملا غير ربحي يجمع كيانات أو ممثلين اعتباريين يهدفون إلى خدمة الصالح العام أو تمثيله أو حل مشكلاته انطلاقا من إحساسهم بالمسؤولية المجتمعية، ويشترط أن يكون تطوعيا حرا، ذا بعد أخلاقي يعزز قيما أصيلة في المجتمع، ويتمتع باستقلالية عن الدولة، ويملك بعدا تنظيما محوكما كشرط أساسي للعمل، ويقدم بعض الأمثلة على هذا النمط من الأعمال متمثلة في النقابات والاتحادات، والشبكات، والتحالفات، وغيرها.

 

ويعرج الفصل الأول من الكتاب أيضا على نظرية توكمان التي تدرس مراحل تشكل وتطور عمل المجموعات مستعرضا 5 مراحل بما تحمله من سلوكيات ومشاعر وأفكار واحتياجات للعمل، وصولا إلى المهارات القيادية المطلوبة فيها، وتبدأ هذه المراحل من مرحلة التشكيل إلى العواصف، ثم اعتماد النموذج إلى تطوير الأداء وصولا للإغلاق.

إلى سوريا.. وتشريح التجربة

ينتقل بنا القسم الثاني من الكتاب إلى استعراض لمحة عن واقع العمل المدني في سوريا بعد الاستقلال، والتطورات التي طرأت عليه وقيدت مجالات عمله بعد صدور قانون التنظيم النقابي عام 1964، ثم يعرج بنا إلى عام 2011 متجاوزا مرحلة الجمود والتصحر السياسي والمدني، ليظهر الظروف التي شهدت عودة متسارعة للعمل المدني فرضتها الظروف الداخلية والخارجية وقادتها مجموعات من السوريين بمبادرة ذاتية منهم.

يتعمق الكتاب في فصله الثالث في تفكيك التجربة السورية الناشئة، مشيرا إلى أن غالبية التجارب الجمعيّة السورية انتظمت في نمط متقارب متكرر يتوافق بشكل كبير مع ما ورد في النظرية، ويكاد يلاحظ في كافة التجارب المدروسة، وقد حلل هذا الفصل دوافع التشكيل والمشاعر والأفكار والسلوكيات التي كانت ملاحظة بين السوريين، خاصة في المراحل الأولى، معتبرا أن معظم التجارب السورية علقت بين مرحلتي العواصف واعتماد النموذج، ولم تستطع غالبية التجارب تجاوزها.

في الفصل الرابع من الكتاب، نجد أمامنا تفصيلا وتفكيكا دقيقا لأنماط المشاكل التي تكررت في التجارب المدروسة، والتي صنفتها الباحثة تحت 4 أنماط رئيسية، منها مشاكل ظهرت نتيجة صفات تتعلق بالأفراد بغض النظر عن جنسيتهم كالفردية والأنانية وتضخم الذات وغياب الضوابط الأخلاقية والهوس بالسلطة، ومشاكل اعتبرت ذات أبعاد ثقافية تتعلق بتأثيرات الثقافة السائدة في المجتمع السوري كغياب الثقة بالأفراد والقوانين والأنظمة، و”الشللية” و”المناطقية” التي طغت على الهوية الوطنية الجامعة

وبالانتقال إلى الفصل الرابع من الكتاب، نجد أمامنا تفصيلا وتفكيكا دقيقا لأنماط المشاكل التي تكررت في التجارب المدروسة، والتي صنفتها الباحثة تحت 4 أنماط رئيسية، منها مشاكل ظهرت نتيجة صفات تتعلق بالأفراد بغض النظر عن جنسيتهم كالفردية والأنانية وتضخم الذات وغياب الضوابط الأخلاقية والهوس بالسلطة، ومشاكل اعتبرت ذات أبعاد ثقافية تتعلق بتأثيرات الثقافة السائدة في المجتمع السوري كغياب الثقة بالأفراد والقوانين والأنظمة، و”الشللية” و”المناطقية” التي طغت على الهوية الوطنية الجامعة.

أما النمط الثالث من المشاكل، فكانت المشاكل الإدارية التي تكررت في التجارب كلها وبشكل لافت، إذ تشير إلى غياب الوعي وافتقاد المهارات الإدارية المطلوبة بهذا النمط من الأعمال، بالإضافة إلى فقدان المهارات القيادية وغياب مهارات حل الخلاف والتعامل مع الاختلاف، ثم يُختتم هذا الفصل بالنمط الرابع من المشاكل التي تركزت في غياب التجربة السابقة وتأثير الدعم الخارجي على أداء هذه الأجسام وإدارة علاقاتها الداخلية، سواء كان هذا الدعم سياسيا أم ماليا.

النمط الثالث من المشاكل هو المشاكل الإدارية التي تكررت في التجارب كلها وبشكل لافت، إذ تشير إلى غياب الوعي وافتقاد المهارات الإدارية المطلوبة بهذا النمط من الأعمال، بالإضافة إلى فقدان المهارات القيادية وغياب مهارات حل الخلاف والتعامل مع الاختلاف، ثم يُختتم هذا الفصل بالنمط الرابع من المشاكل التي تركزت في غياب التجربة السابقة وتأثير الدعم الخارجي على أداء هذه الأجسام وإدارة علاقاتها الداخلية، سواء كان هذا الدعم سياسيا أم ماليا

من التوصيف إلى النبش في جذور المشكلة

وبعد رسم صورة التجربة وتفكيك أنماط مشاكلها، يقدم الفصل الخامس من الكتاب وقفة مع الأسباب التي صعّبت على السوريين القدرة على العمل في هذه الكيانات والأجسام التي يفترض بها مواجهة الاستحقاقات المتنوعة، وكانت وراء ظهور هذه المشاكل والسلوكيات وأنماط العمل غير الصحية.

جذور المشكلة بدأت من تأثير تجميد العمل المدني السوري والأجواء القمعية التي عاشها السوريون لعقود

ويفصّل هذا القسم في تحديد جذور المشكلة التي بدأت من تأثير تجميد العمل المدني السوري والأجواء القمعية التي عاشها السوريون لعقود، منتقلا إلى توضيح تأثير العرف والثقافة في تكوين منطق مؤسسي خاص يعمل على تشكيل أنظمة خلفية تسود ويحكم في الكواليس أغلب أشكال العلاقات بين الأفراد، ويحدد الصواب والخطأ، ويتغلب في عديد من الأحيان على الأنظمة الإدارية المطبّقة.

كما تطرق هذا الفصل إلى أثر غياب الأطر القانونية الناظمة فعليا للعمل والتي يمكن الاحتكام إليها عند الخلاف، ويعود غياب هذه الأطر القانونية إلى انتقال هذه الأجسام إلى العمل في بيئات جديدة في المغترب، إلى جانب عدم توافر الشروط الناظمة للعمل الجمعي كالتفرغ والتطوع والبعد التنموي والقيمي والاستقلالي، فضلا عن غياب الوعي بأساسيات هذا النمط من الأعمال وأنظمته.

ويعود الكتاب مجددا لطرح تأثير التدخلات الخارجية، وتوضيح آثارها السلبية على التجربة السورية، فقد صادرت الجهات الداعمة بشكل غير مباشر القرار وتدخلت في أنماط الإدارة والعلاقة بين الأفراد، وفرضت شروطها ورؤيتها على المجموع مستغلة الضعف الإداري الكبير وغياب النماذج القيادية المؤهلة التي يمكنها العمل في مثل هذه التحديات.

أبرزت الباحثة في الفصل السادس بعض الجوانب الإيجابية لهذا التجارب، في محاولة لتقديم رؤية منصفة، معتبرة أن هذه الكيانات تمكنت من النمو والعمل في بيئات استثنائية وإثبات وجودها، معتبرة أن الإحساس بالمسؤولية والقدرة على المبادرة والتحدي واستكشاف مجالات تأثير جديدة أمر يستدعي الثناء والاحترام، خاصة أن التجربة خلقت بيئة للممارسة والتجريب وتطوير الأدوات وهي أولى خطوات النضج والنمو

كيف نحدد النجاح من الفشل؟ معايير لتقييم التجربة

ورغم الواقع الصعب الذي يحيط بالتجربة بأكملها، أبرزت الباحثة في الفصل السادس بعض الجوانب الإيجابية لهذا التجارب، في محاولة لتقديم رؤية منصفة، معتبرة أن هذه الكيانات تمكنت من النمو والعمل في بيئات استثنائية وإثبات وجودها، معتبرة أن الإحساس بالمسؤولية والقدرة على المبادرة والتحدي واستكشاف مجالات تأثير جديدة أمر يستدعي الثناء والاحترام، خاصة أن التجربة خلقت بيئة للممارسة والتجريب وتطوير الأدوات، وهي أولى خطوات النضج والنمو.

وفي محاولة للابتعاد عن أحكام متسرعة حول التجربة الناشئة، وصعوبة الحكم على نماذج العمل الجمعي لحداثة عهدها وتعقد ظروف نشأتها ومجالات عملها، يقدم الفصل السابع 3 معايير يمكن من خلالها الآلية التي يفترض اعتمادها لقياس مدى نجاح هذه الكيانات ونموها بعيدا عن الانطباعات والأحكام المسبقة، وينطلق أولا من معايير الحوكمة الـ12 وبنودها التفصيلية المعتمدة لقياس “الحكم الديمقراطي الجيد”، ثم يستعرض ثانيا معايير قياس الأداء انطلاقا من القيمة والأداء المؤسسي إلى التأثير وإدارة الصراعات ورأي أصحاب المصلحة، ثم يتوقف ثالثا مع اتجاهات النمو والتطور التي تنتقل بالكيانات والمؤسسات من مرحلة النمو إلى مرحلة التأثير المستدام.

ضوء في نهاية النفق

أما الفصل الثامن من الكتاب، فيستعرض مجموعة من الفرص والتحديات والاحتياجات والأدوار الغائبة التي من شأنها الانتقال بواقع مؤسسات العمل الجمعي السورية إلى مستوى أفضل، حيث يبرز جوانب القوة والفرص التي يفترض استغلالها والتي برزت خلال التجربة كالمرونة وسرعة التعلم والإحساس بالمسؤولية والرغبة في التغيير، كما يقدم أيضا مجموعة من الاحتياجات التي يفترض توفيرها لتعزيز الأداء وتطويره، والتي تنطلق من بناء الوعي الذاتي والداخلي والشعبي حول الأدوار المتوقعة هذه الكيانات والمهام المنوطة بها، وتأهيل الكوادر وامتلاك الأدوات المطلوبة لحل المشكلات.

يستعرض الكتاب مجموعة من السلوكيات التي يلزم تغييرها لكونها سببا في إخفاق العمل كالمحاصصات والإقصاء وتصحيح العلاقة مع الداعمين، وينبه إلى مجموعة من الأدوار التي لا تزال غائبة عن هذه الكيانات والتي تتعلق بأدوارها التنموية المحلية والعالمية والتي يمكن أن تنتقل بها إلى مساحات تأثير جديدة

كما يستعرض هذا الفصل أيضا مجموعة من السلوكيات التي يلزم تغييرها لكونها سببا في إخفاق العمل كالمحاصصات والإقصاء وتصحيح العلاقة مع الداعمين، وينبه إلى مجموعة من الأدوار التي لا تزال غائبة عن هذه الكيانات والتي تتعلق بأدوارها التنموية المحلية والعالمية والتي يمكن أن تنتقل بها إلى مساحات تأثير جديدة.

ويختم الكتاب رحلته باستعراض لنتائج البحث والدراسة، وتقديم مجموعة من التوصيات العملية التي تساعد على تعزيز التجربة ورفع الوعي، وعلى تطوير مستويات الإدارة الحالية وتوصيات تتعلق بإعادة تشكيل الذهنية الجمعية والثقافية للمشاركين في هذه الكيانات وللمجتمعات الحاضنة لها.

يقدم الكتاب -على مدى 188 صفحة- رحلة تشريحية عميقة، يناقش فيها التجربة السورية الناشئة مقدما الأمثلة والشواهد من أصحاب هذه التجربة والممارسين لها، ومعتمدا على ما يزيد على 33 مقابلة معمقة امتدت على قرابة 50 ساعة، ودراسات حالات شملت 5 أجسام جمعية سورية عملت في مجالات تطوعية ومدنية وإنسانية وسياسية وعسكرية خلال 13 سنة، وواجهت تحديات جمة من عدم الاستقرار والنزوح والتدخلات الخارجية، بالإضافة إلى ورشة نقاش مركزة قام عليها مجموعة من الخبراء النفسيين.

إن كتاب “من الغيبوبة إلى المارثون” وإن كان يقدم دراسة للتجربة السورية الناشئة، إلا أنه يتقاطع بشكل كبير مع واقع العمل المدني ومشاكله في البيئات العربية والإسلامية، إذ تغيب التنظيرات والدراسات العلمية الرصينة حول واقع عملنا ومشاكله وسبل تطوير، ويتم الاكتفاء غالبا بالمعرفة القادمة من الغرب ومحاولة إسقاطها على بيئاتنا المختلفة سياسيا واجتماعيا وثقافيا وفكرية، وهو، إذ يحلل الحالة السورية، يقدم قراءة هامة ترفد المكتبة العربية بدراسة تشريحية معمقة يمكن من خلالها فهم الواقع المعقد والتحرك لتحسين مؤسساتنا وتطويرها والارتقاء بأدائها لتمارس أدوارا حقيقية فاعلة في المجتمع.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version