رثى مدينته درنة الليبية في قصيدة قبل نحو 17 عاما، وتنبأ بما ستؤول إليه حالها جراء إهمالها، مدينته التي ما انفك عن ذكرها في قصائده متغزلا فيها ومعبرا عن حبه اللامتناهي لها، وسط قلق مستمر على ما يخبئه القدر لها.
لم تكن نبوءته من وحي خياله، وإنما لما لامسه من واقع المدينة المترهل والإهمال الذي تعانيه طيلة عقود من الزمن، فضلا عن مآسيها المستمرة التي عاشتها من قمع بعض أبنائها إبان حقبة العقيد الراحل معمر القذافي، وصولا إلى ما شهدته في ظل سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية” عليها والحروب التي عانت ويلاتها لسنوات بعد ثورة فبراير/شباط 2011.
مصطفى الطرابلسي شاعر وأستاذ في اللغة العربية ولد في سبعينيات القرن الماضي، وهو سليل عائلة الطرابلسي إحدى العائلات المعروفة بمدينة درنة، التي أنجبت رواد مسرح وفنانين ومشايخ وأدباء ومثقفين، فوالده هو المستشار القانوني الراحل عبدالعزيز الطرابلسي، وجده أحد أعلام المدينة العلامة الشيخ مصطفى الطرابلسي صاحب كتاب “درنة الزاهرة” الذي يروي قصة تأسيس المدينة.
الشاعر المتيم بمدينته والمهووس بحبها وعشقها هو أحد مؤسسي جمعية “بيت درنة الثقافي” المعروفة بالمدينة، ومن المشاركين في كل أنشطتها، ويعد علما من أعلام المدينة لدى شبابها.
إلى جانب حبه للثقافة والأدب والشعر، كان الطرابلسي محبا للرياضة وكرة القدم تحديدا، فهو أحد أعضاء النادي الأفريقي بالمدينة.
القصيدة التي تنبأت بالفاجعة
ذاع صيت مصطفى الطرابلسي في عموم ليبيا عقب وفاته، وغزت قصيدته ومنشوراته التي كان يدونها في حسابه بفيسبوك كل صفحات مواقع التواصل الاجتماعي الليبية، والتي كان يتحدث فيها وكأنه يكتبها اليوم.
في منشوراته الأخيرة، عبّر الطرابلسي باستمرار عن استيائه ووجعه للحال التي وصلت إليها درنة، وحذر مرارا من انزلاق المدينة إلى مصير أسوأ من وضعها الحالي، كما تغزل كعادته بدرنة وحبه لها واصفا جمالها وروعتها.
تعود قصة نبوءة الطرابلسي بمصير المدينة الكارثي إلى عام 2006، في قصيدة تنبأ فيها بنهاية المدينة جراء معاناتها المستمرة، واصفا فيها معاناة المدينة:
“عظم الله يا خوي أجرك فيها.. درنة انتهت وتريد من يرثيها
درنة كانت.. طفلة جميلة بالدلال ازدانت
من ظلم ياما ومن مصايب عانت.. التاريخ يفخر وين ما يطريها”
كان سكان درنة يرددون مطلع قصيدته في حياتهم اليومية، وكانت لا تفارق ألسنتهم عند وقوع أي حدث سيئ في المدينة، مستائين من وضعها ومتهكمين على مسؤوليها قائلين: “عظم الله أجرك فيها، درنة انتهت وتريد من يرثيها”، حسب أصدقائه.
صراخ الطرابلسي ومناشداته وخوفه على المدينة ومخاطر إهمالها كان حاضرا في كلمته التي ألقاها في الندوة التي عقدت ببيت درنة الثقافي قبيل الفاجعة، ويستذكر عبد الحميد بطاو (صديق الطرابلسي وأحد كبار شعراء درنة) جزءا من تلك الكلمة، التي قال فيها الطرابلسي “من أناشد، ولمن نصرخ بالكارثة التي يجزم بها المهندسون وذوو الاختصاص بالمدينة بما سيحل بالوادي وينهي كل شيء”.
ويقول بطاو -في معرض حديثه للجزيرة نت- إن الطرابلسي عشق درنه بكل غيرة ولهفة، وكان قلقلا بشأن المدينة على الدوام ويشعر باستمرار بخيبة أمل تجاه المسؤولين عليها، مستشهدا بمنشور للطرابلسي عبر حسابه على فيسبوك كتب فيه “كلما أشعلت المدينة أملا ينسيها الوجع كان بالمقابل ألف ريح تترصد الأنوار”.
ولم يتوقف الطرابلسي أبدا عن انتقاد المجلس البلدي بالمدينة، وطالب باستمرار بمسؤولين يمثلون المدينة وسكانها ولا يمثلون بها، يضيف بطاو.
المرهف الشجاع، هكذا يصفه صديقه ورفيق دربه الإعلامي حمدي بن زابيه، مشيرا إلى أن الطرابلسي كان يتأثر عندما يجد قطة ميتة مرمية في أحد شوارع المدينة، إلا أنه كان شجاعا يرفض الظلم والإرهاب وكل ما ينغص عيش المدينة وسكانها، وقد أسره تنظيم الدولة إبان سيطرتهم على المدينة السنوات الماضية، بسبب كتاباته المستمرة الرافضة للتنظيم ومطالباته المستمرة بالانتفاضة ضدهم.
ويروي بن زابيه في حديثه للجزيرة نت أن عناصر التنظيم أسروا الطرابلسي وحفروا له قبرا ووضعوه فيه، وطلبوا منه أن يردد الشهادة قبل أن يقتلوه، غير أنهم أطلقوا سراحه بعد لحظات وطلبوا منه العودة إلى منزله بعد أن جردوه من ثيابه.
ابن درنة
وعن سماته الشخصية، يقول بن زابيه إن الشاعر مصطفى الطرابلسي رغم أنه لم يرزق بذرية فإنه كان عطوفا ودودا محبا للخير، ساعيا على الدوام للصلح بين المتخاصمين من أصدقائه والمقربين منه.
ويضيف بن زابيه أن الطرابلسي كان صاحب نكتة ومرح وشخصية، وأنه كان يتمنى أن يشرب من مياه بحر مدينته درنة من شدة تعلقه بها، ولم يكن يعلم أن سيفارق الحياة في هذا البحر بعد أن تجرفه السيول.
ولطالما سيطر حب مدينة درنة على قصائد الطرابلسي، الذي ترعرع في أزقتها وضفاف واديها، معتبرا إياها سبب أوجاعه وطبيبها ودواءها في الوقت ذاته.