تعتبر المجموعة القصصية (على باب مغارة)، للكاتب المبدع حسن البطران، التي صدرت بطبعتها الأولى عام 2023م، نموذجًا مثاليًّا يبرز فيه أسلوب القاصّ المتميز في مجال القصة القصيرة جدّاً التي عشقها عشقاً نتج عنه اشتغاله الدائم بها واعتكافه في محرابها، فكان معظم أو جلّ إبداعه الأدبي فيها الذي ساهم في جعله محط اهتمام النقاد والقراء على حد سواء.

ومن اللافت أن المجموعة قُسّمت إلى ثلاثة عشر قسماً، وكل قسم هو محور تدور في فلكه عدد من النصوص، ولقد استهله بعتبة أرقام ترمز إلى عدد الكلمات المكونة منها كل قصة مثل القسم الأول ص 13: (20_5_6_9) حيث احتوى على ثلاث قصص: القصة الأولى نُسِجت من خمس كلمات، والثانية من ست، والثالثة من تسع ومجموعها عشرون كلمة عبر بها عن الموضوع المطروح في هذا الجزء؛ ممّا أضفى على المجموعة طابعاً فنياً فريداً.

ومن السمات البارزة لهذه المجموعة عناوين القصص التي اختارها الكاتب بعناية فائقة، فهي تلعب دوراً كبيراً في جذب القارئ وإثارة فضوله؛ لكونها صورة مختزلة لفكرة النص أو مفتاحاً لتفسير رموزه مثل: عنوان (مرآة مشوشة) الذي يشير إلى ردة الفعل غير المتوقعة ص(14)، و(شللية) الذي يعكس سلوكاً اجتماعيّاً متفشيّاً في المجتمع ص(18)، و(خياطة خفية) الذي يلمح إلى ما يدور في الخفاء ص(28)، و(قشور الثقافة) الذي لوّح فيه إلى مدّعي الفكر ص(34)، وغيرها ممّا يرشد إلى الرؤى المتنوعة في النص.

كما عالجت المجموعة قضايا إنسانية تتجاوز الحدور الزمانية والمكانية والخصوصية الثقافية، فتناولت البحث عن الأمان في (يارا) ص(23)، والتسلط والقمع في (شعب) ص(27)، ومعاناة التهجير في (طريد الخرائط) ص(45)، إلى جانب الموضوعات الاجتماعية التي تنبثق من صراع الأفراد الظاهر في العلاقات التي يكون طرفاها الرجل والمرأة كالاستغلال في (نفاذ طاقة) ص(62)، والخيانة في (قلم لا يكتب) ص(64)، والخذلان في (مرآة غير صافية) في ص(66). وبهذا، نجح البطران في التعبير عن التجارب بأبعادها المختلفة، مما يجعل النصوص قريبة ومؤثرة في وجدان المتلقي.

وعلاوة على ذلك، برز أسلوب التكثيف السردي حيث اعتمد الكاتب على الإيجاز المليء بالمعاني فيعبر عن فكرة أو شعور واحد، ويطوره في كلمات موجزة؛ فتصبح القصة أقوى وقعاً في النفوس، نجد ذلك جليّاً في قصة: (لمحات) وقصة (غنوة) و(لون أبيض) ص(39-41) التي لم تتجاوز كلماتها أربع كلمات ذات دلالات عميقة جدّاً تحفز القارئ وتدعوه إلى التفكر والتأمل، وإعادة القراءة؛ لسبر أغوار النص وقراءة ما بين السطور.

ولم يكن التكثيف وحده هو ما أضفى التميّز على هذه المجموعة، بل برع الكاتب في استخدام الرمزية بأسلوب متقن، حيث حملت العناصر رموزاً غنية بالإيحاء. فمثلاً، جسدت شجرة الرمان في قصة (مطبات هوائية) (ص56) الأمل، بينما أشار القرد في (موز وقفص) (ص42) إلى الشخصية الانتهازية، والشماغ في (زوج)، (ص 65) إلى الخيانة. هذا التوظيف للرموز فتح للقارئ أبواب التأويل المتعددة.

أما عنصر المفاجأة فقد كان حاضراً بقوة في نهاية العديد من القصص، من خلال المفارقة التي تُدهش المتلقي عبر إثارة الأسئلة النابعة من الحالات الإنسانية المطروحة بعمق لا يخلو من المتعة الفنية. على سبيل المثال، في قصة (ضلع أعوج)، (ص15) نجد التناقض الرمزي بين النظر إلى الأعلى والرمي إلى الأسفل، وفي (غابة يابسة)، (ص22) تبرز الدهشة حين يُطلق صغار القتيل على القاتل اسم (بابا) في (غابة يابسة)، (ص22)، وادّعاء ما هو خلاف الواقع في (توأمة أزمة)، (ص60)، ما يجعل النهاية صادمة ومؤثرة في آن واحد.

إنّ هذا العمل الأدبي تجربة غنية ومبتكرة تُعبّر عن براعة الأديب حسن البطران في خلق القصة القصيرة جداً بأسلوب فني مبتكر؛ حيث استطاع أن يقدّم من خلالها رؤية عميقة للتجارب الإنسانية، فقد جمع بين التكثيف، والرمزية، والمفارقة في قالب أدبي يحمل طابعاً حداثياً لا يخلو من المتعة الفنية.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version